صابر الحرشاني
شرعت بلادنا منذ فترة في أول تجربة وطنية لاستغلال تقنية ”الاستمطار الصناعي”، في خطوة اعتبرها الخبراء واعدة ضمن مسار طويل لمواجهة انعكاسات التغيرات المناخية وتراجع الموارد المائية.
وتشير التقديرات الرسمية إلى أن التجربة، التي أطلقتها وزارة الفلاحة بالتعاون مع وزارتي الدفاع الوطني و النقل والمرصد الوطني للأرصاد الجوية في أفريل الماضي بحوض سدّ سيدي سالم، حققت مؤشرات إيجابية على أكثر من مستوى، رغم محدودية نطاقها التجريبي.
وقد مثلت هذه المبادرة فرصة مهمة في انتقال الدولة من مجرد الترقب والتفاعل مع الظواهر المناخية، إلى اعتماد آليات استباقية قائمة على التكنولوجيا والابتكار.
تحديات الجفاف والتغيرات المناخية
و تعيش تونس منذ أكثر من خمس سنوات على وقع موجات متتالية من الجفاف الحاد، أثّرت بشكل مباشر على منسوب السدود والموارد الجوفية، وتسببت في تقليص المساحات الزراعية، لا سيما زراعة الحبوب والزراعات السقوية.
وبفعل التغيرات المناخية، بات توزيع الأمطار أكثر اضطرابًا، حيث تشهد البلاد مواسم مطرة قصيرة وعنيفة، تتسبب في فيضانات دون أن تساهم فعليًا في تغذية الموائد المائية، حيث ان هذا الواقع المناخي الصعب حتم على السلطات البحث عن حلول مبتكرة لتقليص حدة الجفاف وتثبيت منظومة الأمن المائي.
الاستمطار الصناعي
و تقوم تقنية الاستمطار الصناعي على تدخل بشري لتحفيز السحب على إسقاط الأمطار، عبر رش مواد كيميائية معينة (مثل يوديد الفضة أو الملح) من طائرات أو باستخدام صواريخ تُطلق في مناطق معينة عندما تكون الظروف الجوية مواتية.
ورغم أن التجربة ليست جديدة على المستوى العالمي، حيث تعتمدها دول عديدة مثل الصين والهند والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، فإن دخول تونس هذا المضمار يمثل تحولًا استراتيجيا مهما.
وقد أكدت وزارة الفلاحة أن التجربة الأولى شملت مناطق في الشمال الغربي، حيث تم رصد سحب مناسبة باستخدام تقنيات الاستشعار عن بعد، وتوجيه طائرة عسكرية مجهّزة لتنفيذ عمليات الرش.
و أظهرت نتائج التجربة الأولى مؤشرات أولية إيجابية، حيث تم تسجيل تهاطل أمطار متفاوتة في المناطق المستهدفة بعد ساعات من تنفيذ العملية، وهو ما اعتُبر مؤشرًا مشجعًا على فاعلية التقنية في ظروف مناخية ملائمة. كما مثّلت التجربة فرصة لتطوير القدرات التقنية والعلمية المحلية، وتعزيز التنسيق بين مختلف المتدخلين من هياكل الدولة.
ويُذكر أن بلادنا كانت قد شرعت منذ فترة في إعداد هذا المشروع بالشراكة اندونيسيا بالاعتماد على عدد من الخبراء الوطنيين ، وقد تم تأهيل طائرات وتزويدها بالمعدات اللازمة، إلى جانب تدريب طواقم فنية مشتركة من وزارتي الدفاع والفلاحة.
شروط
ورغم الحماس الذي رافق التجربة، فإن بعض الخبراء يبدون تحفظات بشأن مدى نجاعة الاستمطار الصناعي في السياق المناخي التونسي، مشيرين إلى أن نجاحه مشروط بوجود سحب مناسبة، وهي مسألة تقلّصت بفعل الجفاف والتغيرات المناخية.
ويعتقد عدد من المختصين في علوم المناخ انه من الضروري وضع إطار علمي صارم لتقييم نتائج العمليات، وتوسيع النقاش بشأن خيارات تونس في التعامل مع الأزمة المناخية، مشددًا على أن الاستمطار لا يمكن أن يكون بديلًا عن سياسات إدارة الموارد المائية أو إصلاح منظومة الفلاحة التقليدية.
و تُعد تجربة الاستمطار خطوة من بين سلسلة حلول تدرسها تونس لمجابهة التحديات المناخية والمائية، وقد أطلقت الدولة عدة برامج لإعادة استعمال المياه المعالجة في الريّ، وتحلية مياه البحر في المناطق الساحلية، إلى جانب حملات توعوية لترشيد الاستهلاك في المدن والوسط الريفي.
غير أن عددا من التقارير الدولية، من بينها تقرير البنك الدولي لعام 2023، حذرت من أن تونس تحتاج إلى إصلاحات هيكلية عميقة في سياسات إدارة المياه والفلاحة، تشمل مراجعة منظومة دعم الإنتاج، وتحسين البنية التحتية، وتثمين الموارد غير التقليدية.
و يمثل إدراج الاستمطار الصناعي ضمن أدوات الدولة المناخية فرصة لإعادة صياغة استراتيجية وطنية متكاملة تجمع بين الحلول التكنولوجية والتدخلات الهيكلية. وفي هذا السياق، أعلن المرصد الوطني للتغيرات المناخية عن قرب إصدار “الاستراتيجية الوطنية للتكيف مع التغيرات المناخية 2025-2035″، والتي تتضمن مقترحات للتمويل الأخضر، ودعم الابتكار في مجالات الطاقات المتجددة والمياه.
رهانات
كما تعكف وزارة البيئة على استكمال إعداد “الخريطة المناخية الوطنية”، والتي من شأنها تحديد المناطق الأكثر هشاشة أمام التغيرات المناخية، وتوجيه الاستثمارات وفقًا لأولويات التكيف.
و تحظى مبادرات تونس المناخية بدعم عدد من الشركاء الدوليين، مثل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والبنك الإفريقي للتنمية والوكالة الألمانية للتعاون الدولي، الذين أبدوا اهتماما خاصا بتجربة الاستمطار وآفاق توسيعها.
ومن المنتظر أن تساهم هذه الخطوة في تعزيز موقع تونس كبلد ملتزم بالمبادئ البيئية، بما يفتح المجال للحصول على تمويلات إضافية في إطار الصناديق المناخية العالمية، لا سيما صندوق التكيّف وصندوق المناخ الأخضر.
و رغم أن التجربة الأولى للاستمطار في تونس لا تزال في مراحلها الأولية، فإن ما تحقق يمثل حجر أساس لمشروع قابل للتطور إذا ما توفرت له الموارد التقنية والمالية. ويدعو مراقبون إلى تثبيت هذه التقنية ضمن المخططات الوطنية، مع توسيع نطاقها تدريجيا إلى المناطق الداخلية والجنوبية.