رغم الضربات العسكرية الأمريكية الأخيرة التي استهدفت منشآت نووية إيرانية والاتفاق على وقف الحرب مع الصهاينة، يبدو أن طهران لن تتخلى عن مشروعها النووي، سواء لأسباب تتعلق بالردع الإقليمي أو الطموحات الجيوسياسية بعيدة المدى. ورغم ما لحق ببعض منشآتها من دمار موصوف بـالشديد، إلا أن الحقائق على الأرض – حسب محللين ومصادر استخباراتية – تشير إلى أن المقومات الأساسية للبرنامج النووي الإيراني لا تزال قائمة، وأن عملية استئناف التخصيب والإنتاج قد لا تكون سوى مسألة وقت.في ظل هذا السياق، لا تبدو الضربات الأمريكية، التي وصفها مسؤولون في واشنطن بـالناجحة، كافية لكبح جماح طهران النووي أو ثنيها عن اتخاذ القرار السياسي بتصنيع سلاح نووي فعلي. بل إن هذه الضربات قد تكون، وفق تحليل صحيفة بوليتيكو الأمريكية، عاملاً مسرِّعاً لا رجع فيه.
هل أوقفت طهران فعلاً المشروع النووي ؟
في مساء أحد أيام جوان، شنت الولايات المتحدة غارات وصفتها بـالجراحية الدقيقة على منشآت نووية إيرانية، شملت بحسب التقارير منشأة “فوردو” المحصنة تحت الأرض، وموقعين آخرين في أقاليم مختلفة من إيران. وصرّح نائب الرئيس الأمريكي، جي دي فانس، بأن هذه الضربات أعادت البرنامج النووي الإيراني سنوات إلى الوراء، مشيراً إلى نجاحها في تدمير قدرات نووية رئيسية.
في المقابل، كانت صحيفة “بوليتيكو” أكثر تحفظاً في تقييمها. فقد أكدت، نقلاً عن مصادر استخباراتية مطلعة، أن إيران ما زالت تحتفظ بعدد من الركائز الحيوية لبرنامجها النووي، ما يجعل من إعادة بنائه مسألة فنية أكثر منها سياسية. وتشير الصحيفة إلى أن معظم العلماء النوويين الإيرانيين كانوا قد أُجلوا من المنشآت المستهدفة قبيل القصف، الأمر الذي حافظ على عنصر الكفاءة البشرية داخل البرنامج، وهو العنصر الذي لا يمكن تدميره بالقصف وحده.
ما الذي تبقى لإيران بعد القصف؟
رغم الخسائر التي لحقت بالمنشآت، إلا أن إيران تحتفظ، وفقاً للوكالة الدولية للطاقة الذرية، بمخزون يقارب 900 رطل من اليورانيوم المخصب بنسبة 60%. وهذه النسبة تجعل المادة قابلة للوصول إلى مرحلة صنع سلاح نووي خلال أسابيع، في حال تم تخصيبها بنسبة تفوق 90%. وهنا تكمن الخطورة: فالضربات لم تُثبت بعد أنها نجحت في تدمير هذا المخزون بل إن الأدهى، بحسب مصادر مطلعة تحدثت لـ”بوليتيكو”، أن هناك احتمالات قوية بأن طهران قد نقلت جزءاً من هذا اليورانيوم قبل الضربات إلى مواقع غير خاضعة للرقابة الدولية. وبالنظر إلى حجم الحاويات التي يُخزَّن فيها هذا النوع من المواد – وهي مماثلة لحجم أسطوانات الغوص – فإن إخفاءه لا يُعد مهمة مستحيلة، بل بالعكس، يُمكن إنجازه بسهولة نسبية. أما بالنسبة لمكونات أجهزة الطرد المركزي، فهي أيضاً صغيرة الحجم، ويمكن تفكيكها ونقلها بعيداً عن متناول الاستهداف، خصوصاً بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي عام 2018، وما تبعه من توقف التفتيش الدولي الكامل على المنشآت النووية الإيرانية.
ولطالما انتهجت إيران سياسة العتبة النووية؛ أي امتلاك القدرة الفنية والتقنية على تصنيع سلاح نووي دون اتخاذ القرار السياسي الفعلي بالتصنيع. لكن، وفقاً لتحليلات متعددة، قد يكون استهداف منشأة فوردو الحساسة نقطة التحول التي تدفع النظام الإيراني إلى تغيير معادلة “اللاقرار” ..
القرار الإيراني ببناء قنبلة نووية – إن اتخذ – لن يكون مجرد رد فعل عسكري، بل خطوة استراتيجية كبرى. وقد تتخذ القيادة الإيرانية هذا القرار من منطلق الردع، تماماً كما فعلت دول أخرى في السابق، مثل الهند وباكستان، حين وجدت في السلاح النووي وسيلة لتحقيق توازن رعب مع خصومها. وتدعم “بوليتيكو” هذا السيناريو بقولها إن طهران لا تحتاج إلى منشآت ضخمة مثل “فوردو” أو “نطنز” لبلوغ غايتها النووية، بل يمكنها بناء منشأة صغيرة في موقع صناعي مدني أو تحت جبل يصعب استهدافه. وفي ظل التقدم التقني الكبير الذي حققته خلال العقود الماضية، فإن إنشاء وتشغيل منشأة سرية جديدة قد لا يستغرق أكثر من عام، وربما أقل.
ماذا بعد القرار؟
في حال اتخذت إيران القرار الاستراتيجي بتصنيع قنبلة نووية، فإن التحدي لن يكون في التخصيب فحسب، بل في تحويل اليورانيوم عالي التخصيب إلى رأس نووي قابل للإطلاق. وتُعرف هذه المرحلة في الأوساط الأمنية باسم “السَّلْحَنة النووية” ، وهي تتضمن تصميم وتطوير آلية تفجير نووي وتركيبها على صاروخ أو قنبلة.
وتختلف التقديرات الغربية بشأن المدة الزمنية التي قد تستغرقها إيران لإتمام هذه المرحلة. فبينما تشير بعض المصادر إلى أنها قد تمتد إلى عام كامل، تذهب تقديرات أخرى إلى أنها قد تُنجز خلال أشهر، خصوصاً في حال كانت بعض الأبحاث والتجارب قد أُنجزت مسبقاً بالتوازي مع التخصيب.
وفقاً لتقرير بوليتيكو، فإن السيناريو الأسوأ يتمثل في امتلاك إيران بالفعل منشأة سرية تُجري فيها عمليات التخصيب والتجميع النووي، ما يعني أن البلاد قد تمتلك سلاحاً نووياً كاملاً خلال أشهر معدودة، دون أن تتمكن أجهزة الاستخبارات الغربية من كشفها في الوقت المناسب. أما السيناريو الأفضل، فهو تدمير معظم – إن لم يكن كل – مخزون إيران من اليورانيوم عالي التخصيب، وتعطيل قدراتها التقنية بشكل واسع. لكن حتى في هذا السيناريو، تبقى إيران قادرة، بخبرتها المتراكمة وكفاءتها البشرية، على إعادة بناء البرنامج خلال سنوات قليلة فقط.
ما بين العزلة الدولية والتصعيد الإقليمي
إن الخيار النووي الإيراني لا ينفصل عن السياق الإقليمي والدولي الذي تتحرك فيه طهران. فبعد عقود من العقوبات والعزلة، قد ترى القيادة الإيرانية في السلاح النووي ضمانة لعدم تكرار سيناريوهات تغيير الأنظمة أو التدخل العسكري المباشر، كما حدث في العراق أو ليبيا.
وفي المقابل، فإن إقدام طهران على تصنيع قنبلة نووية سيؤجج سباق تسلح إقليمي غير مسبوق، خاصة من قبل دول مثل السعودية، التي سبق أن ألمحت إلى أنها لن تقف مكتوفة الأيدي أمام إيران نووية. كما ستُضطر إسرائيل إلى إعادة النظر في عقيدتها الأمنية، بما قد يقود إلى توترات قد تنزلق سريعاً إلى مواجهة مفتوحة.
من الواضح أن الضربات الأمريكية، رغم فعاليتها الموضعية، لم تُحدث تغييراً استراتيجياً في معادلة التخصيب الإيراني. بل إن واشنطن قد تجد نفسها الآن أمام خيارات أكثر تعقيداً: فإما المضي في حملة عسكرية واسعة تستهدف البرنامج بالكامل – وهو خيار يحمل تبعات كارثية – أو العودة إلى المسار الدبلوماسي ومحاولة إعادة إحياء الاتفاق النووي، بما يتطلب تقديم تنازلات متبادلة قد تكون محرجة سياسياً للإدارة الأمريكية الحالية.
في نهاية المطاف، تشير جميع المؤشرات إلى أن إيران لن تتخلى عن طموحاتها النووية، سواء كانت هذه الطموحات لأغراض ردعية، أو لضمان مكانتها كقوة إقليمية عظمى. فالضربات العسكرية قد تُؤخر، لكنها لا تُنهي مشروعاً يعتبره كثير من صناع القرار في طهران مسألة وجود وهوية وربما تكون المفارقة أن هذه الضربات، التي أرادت واشنطن من خلالها توجيه رسالة ردع، قد أصبحت في نظر طهران تبريراً إضافياً لمواصلة المشروع النووي، ليس فقط كخيار تقني، بل كأولوية أمن قومي لا مجال للتراجع عنها. وفي هذه اللحظة الحرجة، يقف العالم أمام مفترق طرق جديد، حيث يتقاطع الأمن الإقليمي مع الحسابات النووية في واحدة من أخطر نقاط التوتر في الشرق الأوسط المعاصر.