قدمت رئيسة الحكومة سارة الزعفراني الزنزري، مؤخرا نيابة عن رئيس الجمهورية قيس سعيد، خطة وطنية طموحة لإصلاح منظومة التمويل الدولي للتنمية.
و تمثل هذه الخطة رؤية شاملة تهدف إلى إعادة بناء آليات التمويل الدولي بما يتماشى مع خصوصيات واحتياجات الدول النامية، وبالأخص تونس التي تواجه تحديات تنموية متزايدة في بيئة اقتصادية عالمية متقلبة.
مضمون الخطة
وتسعى الخطة إلى ضمان تمويل تنموي مستدام قادر على دعم القطاعات الحيوية الأساسية، وفي الوقت ذاته تأكيد سيادة تونس على خياراتها التنموية، كما تضع هذه الرؤية إطارا جديدا للعلاقة بين تونس والمؤسسات المالية الدولية، يتحول بموجبه دور هذه المؤسسات من جهة تفرض شروطًا صارمة إلى شريك داعم يراعي الواقع الوطني ويقدم التمويل بشكل أكثر مرونة وعدالة.
و في قلب هذه الاستراتيجية، تؤكد تونس على ضرورة أن يكون التمويل طويل الأمد ومستقرا، بحيث يخدم قطاعات الفلاحة الصامدة التي تعتبر ركيزة أساسية للأمن الغذائي في البلاد، وكذلك على الأمن المائي الذي يمثل تحديًا نظراً لتقلبات المناخ وندرة الموارد المائية.
كما تحظى قطاعات الصحة والتحول الرقمي والطاقة المتجددة بأهمية كبيرة، باعتبارها محركات رئيسية للنمو الاقتصادي والاجتماعي. هذه القطاعات تشكل القاعدة التي يمكن من خلالها بناء اقتصاد متين قادر على مجابهة التحديات المستقبلية وتحقيق رفاهية المواطنين.
وتأتي أهمية توفير تمويلات مرنة تتيح للدولة التونسية تكييف مشاريعها وبرامجها التنموية مع احتياجاتها الفعلية، بعيدًا عن الشروط الجامدة التي عرقلت في السابق قدرة العديد من الدول على الاستفادة الفعالة من الموارد المالية الدولية. وتدعو الخطة إلى احترام تام للسيادة الوطنية، باعتبار أن لكل دولة الحق في تحديد أولوياتها التنموية وفقًا لخصوصياتها، دون أن تفرض عليها برامج تنموية أو سياسات تقشفية خارجية لا تتلاءم مع واقعها.
اعادة تعريف دور المؤسسات المالية
وعلى صعيد المؤسسات المالية الدولية، تدعو الخطة إلى إعادة تعريف دورها بشكل يضمن شراكة متوازنة مع الدول النامية. فبدل أن تكون مجرد هيئات تفرض شروطاً على التمويل، يجب أن تتحول إلى شركاء فاعلين يقدمون الدعم المالي والفني وفقاً لخصوصيات كل دولة، مع إرساء آليات شفافة تتيح مشاركة حقيقية للدول في صنع القرار. هذا التغيير هو ضرورة ملحة لتحقيق التنسيق الفعّال ولتعزيز فرص نجاح البرامج التنموية وتحقيق استدامتها.
كما تشمل الخطة محاور استراتيجية واضحة لتعزيز قدرات تونس في النفاذ إلى التمويل الدولي وإدارته بكفاءة، و منها إضفاء مزيد من المرونة على شروط التمويل لتتناسب مع متطلبات الاقتصاد الوطني والتحديات الاجتماعية التي تواجهها تونس.
كما تدعو إلى اعتماد معايير موضوعية وعادلة لضمان حصول البلاد على التمويل الذي يتماشى مع حاجاتها التنموية الفعلية، بعيدا عن المعايير الموحدة التي تلغي الفوارق الوطنية.
كما تتناول الخطة قضية أعباء الديون التي تشكل عبئًا ثقيلًا على تونس ودول نامية أخرى. حيث تطالب بمراجعة شروط التمتع بالديون وتخفيفها لتتمكن الدول من توجيه مزيد من الموارد نحو التنمية والاستثمار في قطاعاتها الحيوية. كذلك، تقترح الخطة إنشاء نافذة موحدة تحت رعاية الأمم المتحدة لتنسيق الدعم الفني والمالي.
وتحظى القارة الإفريقية باهتمام خاص ضمن الخطة، حيث تواجه تحديات بيئية واقتصادية واجتماعية ناجمة عن التغيرات المناخية التي سببتها الدول الصناعية الكبرى. وتهدف تونس إلى إقرار ميثاق مالي خاص بالقارة يضمن تمويلات مباشرة وملائمة تتيح لدول إفريقيا متابعة برامجها التنموية بحرية وفعالية، دون شروط تعجيزية أو ضغوط خارجية قد تعرقل تنفيذها.
و تأتي هذه المبادرة ضمن توجهات دولية متنامية تسعى إلى إعادة النظر في آليات التمويل الدولي، لا سيما بعد الأزمات المتتالية التي شهدها العالم، والتي أظهرت محدودية النماذج التقليدية في تلبية احتياجات دول الجنوب. وتنسجم الخطة مع الدعوات التي تبنتها الأمم المتحدة والمنظمات الدولية نحو تمويل مستدام وعادل يرتكز على احترام السيادة الوطنية والشراكة الحقيقية.
رغم الطموحات الكبيرة، تعترف الخطة بالتحديات الكامنة في مسار الإصلاح، ومنها الحاجة إلى بناء قدرات وطنية وإقليمية تعزز من كفاءة إدارة التمويل وتوجيهه نحو التنمية. وفي هذا الإطار، تؤمن تونس أن الإرادة السياسية والتنسيق مع شركاء التنمية.
ومن جهة أخرى، تضع الخطة تركيزًا عاليا على ضرورة تعزيز قدرات المؤسسات الوطنية في مجال التخطيط والتقييم والشفافية، لرفع كفاءة إنفاق التمويل الدولي وضمان تحقيق الأثر التنموي المرجو. كما تؤكد على أهمية دعم مبادرات التحول الرقمي في الإدارة العامة، بما يمكن من تحسين تتبع المشاريع التنموية وإدارة الموارد.
و تمثل هذه الخطة وفق مراقبون دعوة مفتوحة للمجتمع الدولي لمراجعة قواعد التمويل الدولي، وتعزيز الشراكات القائمة على العدالة والمساواة في عالم يعيش تطورات متسارعة، كما تفتح آفاقًا جديدة لتونس والدول النامية نحو تحقيق أهداف التنمية المستدامة وبناء اقتصادات قوية قادرة على مواجهة التحديات المستقبلية في مثل هذه المحافل الدولية المهمة.