في ظل تصاعد درجات الحرارة خلال فصل الصيف في أوروبا، لم تعد حرارة الشمس مجرد مظهر موسمي طبيعي، بل باتت تمثل تهديدًا متزايدًا للصحة العامة، بحسب ما أوردته منظمة الصحة العالمية في تقريرها الصادر في 23 جوان 2025.
وباتت الموجات الحارة تحصد الأرواح وتثقل كاهل الأنظمة الصحية، ما يدعو إلى تحرك جماعي وفردي للوقاية وتقليل المخاطر.
وأشارت منظمة الصحة العالمية إلى أن ازمة الحرارة والصحة تمثل حالة طوارئ صحية عامة تتفاقم بفعل تغيّر المناخ، لافتة إلى أن الأمين العام للأمم المتحدة سبق أن أطلق “نداءً للتحرك لمواجهة الحرّ الشديد” العام الماضي، وفي 2023 صنّف مدير المكتب الإقليمي للمنظمة في أوروبا التغير المناخي والظواهر الجوية المتطرفة كأولوية صحية قصوى.
وتشهد دول أوروبا والعالم موجات حارة غير مسبوقة تهدد بتحويل الفصول الصيفية لتصبح الأكثر تطرفًا وفتكًا في السنوات المقبلة، وسط تحذيرات بأن الارتفاع الواضح في درجات الحرارة على مستوى العالم، ليس إلا بداية لمستقبل مناخي أكثر قسوة، وذلك رغم تجاوز درجات الحرارة في الوقت الحالي حاجز الـ40 درجة مئوية، ما يعني أن السنوات المقبلة تحمل درجات حرارة تتجاوز ذلك الرقم وستكون أشد فتكًا.
مخاوف من استمرار ارتفاع درجات الحرارة
وصول درجة الحرارة إلى 40 درجة في السنوات المقبلة، لن يكون أمرًا استثنائيًا، بل سيكون مشهدا يتوقع العلماء أنه سيصبح أمرًا معتادًا ما لم يتم اتخاذ إجراءات جذرية لخفض انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري، إذ توضح آخر الدراسات المناخية أن أوروبا وعلى وجه الخصوص دول الجنوب مثل إسبانيا وإيطاليا، تتجه نحو صيف أطول وأكثر سخونة، إذ تظهر النماذج المناخية احتمالية تعرض مدن مثل مدريد وإشبيلية لشهر إضافي من درجات الحرارة المرتفعة فوق 35 درجة مئوية كل عام، في حال استمرت الانبعاثات بالمعدلات الحالية، بحسب صحيفة «ديلي ميل» البريطانية.
ارتفاع درجات الحرارة في أوروبا
السيناريوهات العلمية ترسم صورة قاتمة، تتمثل في موجات حر قد تمتد لشهر كامل، ودرجات حرارة تتخطى الأربعين درجة ستكون هي القاعدة وليس الاستثناء، مع ارتفاع الحرارة بمقدار 3 درجات مئوية عن مستويات ما قبل الثورة الصناعية، قد تواجه مدن جنوب وشرق أوروبا زيادة في عدد أيام الحر الشديد لتصل إلى 10 أيام سنويًا، بينما قد تعاني مدريد وحدها من 77 يومًا في السنة بدرجات حرارة تتجاوز 35 درجة بحلول نهاية القرن.
البروفيسور ريتشارد ألان، من جامعة ريدينغ، أوضح أن التراكم المستمر لغازات الاحتباس الحراري في الغلاف الجوي يبقي الحرارة محصورة في كوكب الأرض، مما يعمّق من حدة الجفاف ويجعل التربة أكثر عرضة لفقدان الرطوبة، الأمر الذي يؤدي إلى تصعيد موجات الحر بشكل ملحوظ.
ولا تتوقف المخاطر عند الحدود المناخية، بل تمتد لتشمل الأمن الغذائي والبشري أيضًا، إذ حذر الدكتور جيمي دايك، من جامعة إكستر، من أن استمرار الاعتماد على الوقود الأحفوري الذي قد يحول موجات الحر الحالية إلى ظاهرة تتكرر كل عامين بحلول منتصف القرن، مؤكدًا أن القارة قد تواجه احتمالات حدوث وفيات جماعية وانهيار في الأنظمة الزراعية.
وقد أعلنت عدة مدن أوروبية حالة التأهب القصوي «غير المسبوقة»، وذلك مع تسجيل دول القارة العجوز موجة حر شديدة ودرجات حرارة مرتفعة، لم تسبق بعض الدول منها تسجيلها منذ سنوات بل ومنذ قرن.
وسجلت إسبانيا ارتفاعًا حادًا في درجات الحرارة بلغ 46 درجة مئوية يوم الاثنين الماضي، بينما أجبرت حرائق الغابات في تركيا، الناجمة عن موجة حر، أكثر من 50 ألف شخص على إجلاء خمس مناطق في مقاطعة إزمير الغربية، بينما وُضعت عدة مدن في فرنسا في حالة تأهب قصوى.
وعلى الرغم من تسجيل تلك البلدان حرارة شديدة على غير العادة، إلا أن الطقس المتطرف لم يعد مفاجئًا، إذ يُجمع العلم على أن تغير المناخ الناجم عن الزيادة المطردة في انبعاثات غازات الاحتباس الحراري كان العامل الرئيسي في الواقع الجديد الحارق الذي يُجبر العالم على التكيف معه، سواءً موجات حر أو فيضانات أو جفاف أو برد قارس.
وفي حين أن التغيرات المناخية التراكمية قد تُصعّب الحياة على الناس، إلا أن البكتيريا ومسببات الأمراض والفيروسات تزدهر في عالم يزداد حرارة ورطوبة، إذ يجلب تغير المناخ الأمراض «الاستوائية» الحساسة للمناخ شمالًا إلى أوروبا، مُغيرًا بذلك جغرافية الأمراض المعدية العالمية.
هجرة الأمراض
تقول الدكتورة ألكسندرا كازمييرتشاك، الخبيرة في العلاقة بين تغير المناخ وصحة الإنسان في الوكالة الأوروبية للبيئة، إن أكثر من نصف الأمراض المعدية التي تواجهها البشرية في جميع أنحاء العالم قد تفاقمت، بل واشتدت، في مرحلة ما، بسبب المخاطر المناخية، مُضيفة أن الظروف المناخية جعلت أوروبا أكثر ملاءمة للأمراض المنقولة بالنواقل والمياه. وأوضحت: «هناك تحول زمني باتجاه الشمال لأن المناخ الحالي أكثر ملاءمة لمسببات الأمراض، موسم الأمراض أطول- فالقراد، على سبيل المثال، ينشط الآن على مدار السنة في العديد من الأماكن».
وتُعد حمى الضنك أحد أسرع الأمراض المعدية نموًا في أوروبا، فقد تم الإبلاغ عن 304 حالات في أوروبا في عام 2024 وحده- مقارنة بـ275 حالة مسجلة في السنوات الخمس عشرة السابقة مجتمعة، إذ يُعد السبب الرئيسي وراء حمى الضنك هو بعوضة النمر الآسيوي، أو الزاعجة البيضاء، وتُعرف هذه الحشرة بأنها ناقل، أي كائن حي قادر على نقل مسببات الأمراض المعدية بين البشر أو من الحيوانات إلى البشر، وبفضل خطوطها السوداء والبيضاء المميزة التي تشبه خطوط الحمار الوحشي أكثر من النمر، فإن هذه البعوضة قادرة على نقل حمى الضنك .
لكن للأسف، ليست الحشرات وحدها ما يدعو للقلق، بل قد يزيد تغير المناخ أيضًا من انتشار الأمراض المنقولة بالمياه، ففي السنوات الأخيرة، شهدت أوروبا الأثر المدمر لفترات طويلة من الأمطار والفيضانات، مما ألحق دمارًا بأنظمة معالجة وتوزيع المياه، ويُمكن للمياه أن تجمع العديد من مسببات الأمراض من مكبات النفايات والحقول والمراعي، وتدفعها إلى أنظمة معالجة وتوزيع المياه.
وتحذر كازمييرتشاك أيضًا من مسببات الأمراض التي تنتقل عبر البحر، قائلة: «مع ذوبان القطب الشمالي، تنخفض ملوحة مياه البحر، مما يجعلها بيئة مثالية لتكاثر مسببات الأمراض مثل بكتيريا الضمة، وقد لوحظت هذه البكتيريا بشكل أكبر في بحر البلطيق وبحر الشمال، وتنتقل هذه البكتيريا من المأكولات البحرية أو حتى من التعرض لجرح مفتوح عند السباحة في مياه ملوثة»..
التكيف مع بيئة جديدة
لا يُمكن التراجع عن التغيرات في جغرافية الأمراض المعدية، إلى حد كبير، فقد ارتفعت درجات الحرارة في أوروبا بالفعل بأكثر من درجتين مئويتين خلال العقد الماضي وحده، دون أي مؤشر على تباطؤها، ولكن على الرغم من ارتفاع درجة حرارة المناخ، تأمل كازمييرتشاك أن تتمكن أوروبا من التكيف.
من هم الأكثر عرضةً للخطر؟
رغم قدرة جسم الإنسان الطبيعية على التكيف الحراري والحفاظ على درجة حرارة ثابتة تقارب 37 درجة مئوية، فإن التعرض المطول للحرارة الشديدة يمكن أن يفوق قدرة الجسم على التبريد من خلال التعرّق، ما يؤدي إلى مشاكل صحية خطيرة، بل وتهديد الحياة.
ولا يتأثر الجميع بنفس الدرجة بموجات الحر. فالمسنون يعانون من ضعف في تنظيم حرارة أجسامهم، كما أن الأطفال والرضع لم تكتمل لديهم بعد آليات التنظيم الحراري. أما العاملون في الهواء الطلق، مثل عمال البناء والمزارعين ورجال الإطفاء، فيواجهون خطرًا مهنيًا مباشرًا بسبب تعرضهم لفترات طويلة للشمس.
ويشمل ذلك أيضًا من يعانون من أمراض مزمنة كأمراض القلب والجهاز التنفسي والسكري، وكذلك الحوامل، إذ ترتبط درجات الحرارة العالية بمضاعفات في الحمل مثل الولادة المبكرة ونقص الوزن عند الولادة.
كيف نحمي أنفسنا؟
دعت منظمة الصحة العالمية إلى اتخاذ إجراءات بسيطة ولكن فعالة للحد من تأثيرات الحرارة من خلال حملتها السنوية تحت وسم “ابق باردا” مؤكدة أن الأضرار الصحية الناتجة عن الحرّ قابلة للتفادي عبر الوعي والتصرف السليم. ونصحت المنظمة بتجنب الخروج أو بذل مجهود بدني خلال ساعات الذروة، واستغلال الساعات الباردة للتسوق أو التنقل، مع أهمية البقاء في الظل وتجنب ترك الأطفال أو الحيوانات داخل السيارات. كما شددت على أهمية إبقاء المنازل باردة باستخدام تيارات الهواء الليلي وتقليل استخدام الأجهزة الكهربائية خلال النهار. وعلى الصعيد الشخصي، نصحت بارتداء ملابس خفيفة، والاستحمام بالماء البارد، وشرب كميات كافية من الماء، مع تجنّب المشروبات السكرية أو المحتوية على الكافيين والكحول. ولفتت المنظمة إلى أهمية التواصل الاجتماعي خلال موجات الحر، خصوصًا مع الفئات الضعيفة، ككبار السن أو الأشخاص الذين يعيشون بمفردهم، حيث يمكن لتفقدهم أو تقديم المساعدة أن يكون له دور حاسم في إنقاذ الأرواح.