في ظل الحرب المستمرة على قطاع غزة والتصعيد الميداني الذي لم ينقطع منذ أكتوبر 2023، تتفاقم أزمة داخلية خطيرة في صفوف جيش الاحتلال الإسرائيلي، لا تتعلق فقط بالشق العسكري أو الاستراتيجي، بل تنخر في بنية الجيش النفسية والإنسانية. إنها ظاهرة الانتحار التي باتت تتكرّر بوتيرة مقلقة، وكأن الجنود باتوا يتساقطون تباعاً بعيداً عن مرمى النيران، لكنّهم ضحايا حرب من نوع آخر.
حالات انتحار متصاعدة
في الأيام الأخيرة، كشفت وسائل إعلام عبرية عن سلسلة من حالات الانتحار الجديدة في صفوف الجنود، تؤشر إلى تصاعد حاد في الأزمة النفسية التي يعيشها جنود الاحتلال. ووفقًا لموقع حدشوت لو تسنزورا، تم العثور على جندي احتياط يبلغ من العمر 30 عامًا منتحرًا داخل سيارته في مستوطنة تفوح جنوب شرق نابلس، دون الإشارة إلى مزيد من التفاصيل حول الأسباب أو الخلفيات.
في حالة أخرى، وُجد جندي آخر من قوات الاحتياط منتحرًا في حي هار حوما في القدس المحتلة، وسط تكتم رسمي على تفاصيل الحادثة، مما يعكس سياسة حجب المعلومات التي يتبعها الجيش الإسرائيلي حيال مثل هذه الوقائع.
كما نشرت صحيفة هآرتس تقريرًا مفصلًا عن حادثة انتحار مروّعة لجندي في لواء غولاني، أحد أكثر الألوية نشاطًا في العمليات داخل قطاع غزة. ووفق الصحيفة، فإن الجندي المنتحر كان قد خرج مؤخرًا من غزة للمشاركة في دورة استجمام، لكن فور وصوله إلى قاعدة سديه تيمان، خضع لتحقيق من الشرطة العسكرية وصودر سلاحه. لاحقًا، أقدم على الانتحار ليلًا باستخدام سلاح زميله النائم في الغرفة.
هذه الحادثة، التي جرت في أجواء من الضغط النفسي الشديد، ليست فريدة من نوعها. فقد أشارت الصحيفة إلى أن الجندي كان صديقًا مقرّبًا لجندي آخر قُتل مؤخرًا في انفجار ناقلة جند داخل غزة، مما عمّق أزمته النفسية. ورغم ارتباط انتحاره بالحرب الدائرة، لم يُدرجه الجيش ضمن ضحايا العمليات القتالية، التزامًا بسياسة تمييزية تستثني المنتحرين من قوائم الشهداء العسكريين.
أرقام مخيفة تكشف عمق المأساة
تُظهر الأرقام التي نقلتها هآرتس مشهدًا قاتمًا يشي بأزمة صامتة تتفاقم في الظل. فبحسب التقرير، انتحر سبعة جنود منذ اندلاع الحرب على غزة حتى نهاية عام 2023، فيما ارتفع الرقم إلى 21 حالة خلال عام 2024، ومع بداية النصف الثاني من عام 2025، تم تسجيل ما لا يقل عن 14 حالة جديدة. أي أن عدد الجنود الذين انتحروا منذ أكتوبر 2023 وحتى جوان 2025 بلغ 42 على الأقل.
ولا يقتصر الأمر على الجنود النظاميين. فقد سُجّلت حالات انتحار في صفوف جنود الاحتياط، وكذلك بين المستوطنين الذين خدموا سابقًا في الجيش وخاضوا مواجهات عنيفة أو أصيبوا بصدمات نفسية خلال مهامهم العسكرية. وتقول هآرتس إن 11 مستوطنًا على الأقل أقدموا على الانتحار منذ بدء الحرب، بسبب اضطرابات ما بعد الصدمة، ما يكشف عن امتداد الأثر النفسي للحرب إلى المجتمع الإسرائيلي الأوسع.
أزمة نفسية متصاعدة… وأرقام تتحدث
في ظل هذه الأوضاع، كشفت معطيات رسمية نشرها الجيش الإسرائيلي في جانفي 2024 عن أن نحو 3000 جندي من النظاميين والاحتياط تواصلوا مع خط الدعم النفسي التابع للجيش منذ بداية الحرب، في حين تم تسريح 90 جنديًا لأسباب نفسية بحتة، نتيجة عجزهم عن مواصلة الخدمة العسكرية.وتعكس هذه الأرقام تصاعدًا غير مسبوق في الطلب على الدعم النفسي، وهي أرقام مرشحة للارتفاع في ظل استمرار القتال وغياب حلول جذرية لمعالجة الانهيار النفسي المتفاقم في صفوف الجنود.
ورغم خطورة الوضع، يواصل الجيش الإسرائيلي التكتّم على الإحصائيات الرسمية الخاصة بحالات الانتحار، خاصة في ظل تصاعد الضغط الإعلامي والحقوقي. فالجيش لا يدرج الجنود المنتحرين بعد انتهاء خدمتهم ضمن الإحصاءات، رغم أن العديد منهم يعانون من اضطرابات ناتجة عن تجربتهم القتالية.
كما يتعمّد الجيش عدم الإعلان عن عدد المنتحرين قبل نهاية كل عام، بهدف تجنّب الجدل الإعلامي والسياسي، في حين تتولى الصحف والمنصات العبرية المستقلة نشر المعلومات المسربة من داخل المؤسسة العسكرية، التي تُظهر وجود أزمة حقيقية في الدعم النفسي والتأهيل العقلي للجنود.
لا تأتي هذه الموجة من الانتحارات من فراغ، بل تتغذّى من عوامل متشابكة نفسية واجتماعية وميدانية. وتقول شعبة القوى البشرية في الجيش الإسرائيلي، في دراسة سابقة، إن السبب الرئيسي لارتفاع حالات الانتحار هو تنامي الاضطرابات النفسية وسط الجنود، بسبب التعرض المستمر للقتال والمواقف الصادمة، إضافة إلى الضغوط الاجتماعية والقلق الوجودي المرتبط بالخدمة العسكرية في بيئة عدائية ومليئة بالمخاطر.
وتشير تقارير أخرى إلى أن الجنود الذين خدموا في قطاع غزة تحديدًا، يعانون من نسب أعلى من الاكتئاب واضطرابات النوم والهلوسات، بسبب ما يشهدونه من مشاهد مروعة، وغياب الدعم النفسي الحقيقي بعد العمليات العسكرية.
نقد داخلي واتهامات بالإهمال
يواجه الجيش الإسرائيلي انتقادات متزايدة من منظمات حقوقية ونفسية داخل إسرائيل، تتهمه بالإهمال في رعاية الجنود نفسيًا، وبتجاهل تبعات الصدمة طويلة الأمد. وتشير هذه الجهات إلى أن الخطط العلاجية التي يوفرها الجيش غير كافية، وتعتمد غالبًا على المسكنات النفسية لا المعالجة الجذرية.ويذهب البعض إلى اعتبار هذه الأزمة قنبلة موقوتة، تهدد بزعزعة ثقة الجنود في المؤسسة العسكرية، خاصة في أوساط المجندين الجدد الذين يتابعون أخبار الانتحارات بقلق متزايد.
ومن جهة أخرى، لا يمكن فصل الظاهرة عن السياق الأخلاقي والسياسي للحرب التي يشنّها الاحتلال على قطاع غزة. فالكثير من الجنود شاركوا في عمليات قصف، واشتباكات عنيفة، واجهوا فيها مقاومة شرسة، وشاهدوا بأعينهم نتائج الحرب على المدنيين والبنية التحتية في القطاع المحاصر.
هذه الممارسات – بما تحمله من انتهاكات متكررة – تترك أثرًا نفسيًا بالغًا، وخاصة على الجنود الأصغر سنًا الذين لم يخوضوا معارك بهذا الحجم من قبل. ويبدو أن الانتصارات الميدانية لم تمنحهم الإحساس بالإنجاز، بل خلّفت شعورًا متزايدًا بالذنب والانهيار.
وفي ظل هذه المؤشرات، يبدو المشهد المستقبلي قاتمًا. فمع استمرار الحرب وتوسّعها، من المتوقع أن تزداد حالات الانتحار والاضطراب النفسي، ما لم تتدخل الحكومة الإسرائيلية بشكل عاجل لإعادة هيكلة النظام النفسي داخل الجيش، ورفع مستوى التأهيل النفسي للجنود.
لكن حتى هذا المسار محفوف بالتحديات، في ظل سياسة التكتّم ورفض الاعتراف الرسمي بوجود أزمة. إذ إن الاعتراف بالأزمة قد يُفسّر كإقرار بالهشاشة، وهو ما يتعارض مع الصورة التي تحاول المؤسسة العسكرية الإسرائيلية تصديرها داخليًا وخارجيًا.
ورغم ما يُروَّج عن القوة العسكرية والتكنولوجية لجيش الاحتلال، فإن هذه الظاهرة تكشف عن خلل بنيوي داخلي لا يمكن تجاهله. فالجندي الذي يحمل البندقية على الجبهة، يحمل في داخله وجعًا لا تداويه الترقيات ولا تنهيه الميداليات.الانتحار، في النهاية، هو الوجه الآخر للهزيمة. هو الصوت الذي يخرج من الجنود رغم الصمت العسكري. ومع كل جندي يسقط برصاصة من سلاحه، تسقط أقنعة الصلابة، وتنكشف هشاشة منظومة تزرع الحرب وتحصد الانهيار.