30.4 C
تونس
2 أغسطس، 2025
دولي

موجة الاعتراف الجماعي بدولة فلسطين: هل نحن أمام منعطف تاريخي؟

في خطوة وصفت بأنها «تاريخية» وغير مسبوقة من حيث التوقيت والمضمون، أعلنت 15 دولة، بينها فرنسا وكندا وأستراليا، نيتها الاعتراف بدولة فلسطين، في بيان جماعي صدر عن مؤتمر وزاري في نيويورك برعاية فرنسية سعودية، انعقد يومي 28 و29 جويلية  2025.

 وجاء هذا الإعلان في ظل حرب متواصلة على غزة منذ أكثر من 650 يوما، وحصار خانق، ودمار شامل، ومأساة إنسانية قلّ نظيرها، ما دفع مراقبين إلى اعتبار هذا الاعتراف الجماعي تحولا سياسيا يعكس اهتزاز المعايير الأخلاقية للغرب وسعيه إلى إعادة التوازن لصورته المتآكلة.

تحرك دبلوماسي متأخر لكنه فارق

لطالما ظلّ الاعتراف بالدولة الفلسطينية مطلبا عربيا، وفلسطينيا، وشعبيا في العديد من الدول الغربية، لكنه ظل يصطدم بـ«الفيتو» الأمريكي أو الحذر الأوروبي، أو الخضوع لتوازنات دولية تُراعي المصالح مع «إسرائيل». لذلك، فإن التحول الجديد لا يُقرأ فقط من زاوية عدد الدول أو مكانة بعضها ضمن مجموعة العشرين، وإنما من حيث الظرف السياسي والإنساني الذي جاء فيه.

لقد قادت فرنسا، بمشاركة السعودية، هذا التحرك الدبلوماسي في نيويورك، وجمعت إلى جانبها دولا مثل كندا وأستراليا، ودولا أوروبية أخرى مثل فنلندا وآيرلندا وإسبانيا وسلوفينيا والنرويج. بعضها سبق وأن اعترف بفلسطين، وبعضها الآخر أعرب لأول مرة عن عزمه على الاعتراف، في موقف يُعد كسرا صريحا لحالة «التواطؤ الصامت» التي دامت سنوات.

ويقول وزير الخارجية الفرنسي جون نويل بارو، في منشور على منصة «إكس»، إن فرنسا و14 دولة أخرى توجه «نداء جماعيا» تعبر فيه عن «عزمها الاعتراف بدولة فلسطين»، داعيا من لم ينضم بعد إلى اتخاذ نفس الخطوة.

أسباب الاعتراف: بين الضغط الشعبي والخشية من المحاسبة

بحسب رائد الصلاحات، رئيس المركز الأوروبي الفلسطيني للإعلام، فإن هذا التحرك الجماعي لا يمكن فصله عن الحرج الذي تعيشه الحكومات الغربية أمام شعوبها، خصوصا في ظل اتساع رقعة التظاهرات المنددة بالإبادة في غزة، وانتشار صور الأطفال الجائعين تحت الأنقاض، وفشل المنظومة الدولية في إنقاذ الأرواح.

فالعدوان الإسرائيلي المستمر، دون رادع، وضع تلك الحكومات أمام مساءلة أخلاقية متصاعدة من شعوبها وناخبيها. من نيويورك إلى باريس، ومن مدريد إلى أوتاوا، تطالب الحناجر بوقف التواطؤ، وتحمّل الحكومات الغربية مسؤولية الصمت والدعم العسكري المباشر وغير المباشر للاحتلال.

ويبدو أن الاعتراف بفلسطين، في هذا السياق، لم يعد خيارا سياسيا فحسب، بل ضرورة أخلاقية وأداة لامتصاص الغضب الشعبي، وحتى محاولة للهروب إلى الأمام عبر تقديم تنازل رمزي لا يُكلّف كثيرا، لكنه يُحسّن من صورة تلك الحكومات.

هل نحن أمام تحول في ميزان القوى الدولي؟

ربما يكون الاعتراف بدولة فلسطين، بحد ذاته، غير كاف لتغيير ميزان القوى على الأرض، لكنه خطوة تحمل رمزية عالية، من شأنها أن تضع الاحتلال أمام واقع قانوني جديد. فالتعامل مع دولة فلسطينية ذات سيادة، معترف بها رسميا من قبل الدول الغربية، سيُلزم هذه الدول مستقبلا بمواقف أكثر اتساقا مع القوانين الدولية، سواء في ما يتعلق بجرائم الحرب أو الاستيطان أو حق العودة.

كما أن هذا الاعتراف يُعيد النقاش حول حل الدولتين إلى الواجهة، بعد أن غيّبته آلة الحرب الإسرائيلية، واستراتيجية فرض الأمر الواقع، والتوسع الاستيطاني الذي التهم مساحات واسعة من الضفة الغربية، وحرّك ملف الضم التدريجي دون رد دولي حازم.

في هذا السياق، جاء إعلان رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر بأن بلاده ستعترف رسميا بدولة فلسطين بحلول سبتمبر المقبل، إذا لم تتخذ إسرائيل خطوات ملموسة لوقف العدوان على غزة، كرسالة ضغط واضحة، تعكس وعيا جديدا بأن بقاء الأمور على حالها لم يعد ممكنا، وأن الاستقرار الإقليمي والدولي يمر عبر حل سياسي عادل.

بين التهديدات الإسرائيلية والتطبيع المتراجع

الرد الإسرائيلي على هذه الخطوات لم يتأخر، وإن جاء ضمنيا. إذ وصفت القناة 12 الإسرائيلية البيان المشترك بأنه «ضربة موجعة» للدبلوماسية الإسرائيلية التي ظلت تستثمر في التطبيع، وتستقوي بالعلاقات الجديدة مع دول عربية وآسيوية وأفريقية، لإضفاء الشرعية على احتلالها.

لكن، في ظل استمرار المجازر في غزة، وفشل المشروع الإسرائيلي في تركيع المقاومة، بدأت كثير من الدول تعيد النظر في سياستها، خصوصا بعد أن بات التطبيع مرادفا للتطهير العرقي والجرائم ضد الإنسانية.

كما أن التحولات الجارية تُضعف قدرة الاحتلال على عزل الفلسطينيين دوليا. فكل اعتراف جديد يُبطل سردية الاحتلال القائمة على «الفراغ السيادي» في الأراضي المحتلة، ويدفع باتجاه التعامل مع الفلسطينيين كطرف ندّي، يُفترض أن تُحترم سيادته وحدوده، لا كجماعة سكانية خاضعة لسلطة إدارية كما تحاول إسرائيل تصويرها.

اعتراف لا يكفي… لكنه بداية

لا شك أن اعتراف 15 دولة دفعة واحدة، بينها دول وازنة سياسيا واقتصاديا، يحمل في طياته مؤشرا سياسيا بالغ الأهمية، لكنه لا يعني تلقائيا أن الاحتلال سيتراجع، أو أن الفلسطينيين سينالون حقوقهم فورا.

فمثل هذا الاعتراف يظل رمزيا ما لم يُترجم إلى خطوات عملية، من قبيل:

  • تقديم دعم دبلوماسي وقانوني لفلسطين في المحافل الدولية؛
  • فرض عقوبات على الاحتلال في حال مواصلته العدوان والاستيطان؛
  • تقديم المساعدات الإنسانية إلى غزة دون قيد؛
  • تقييد صادرات السلاح لإسرائيل؛
  • إنهاء مظاهر التطبيع والدعم غير المشروط للاحتلال.

أما إذا ظل الاعتراف مجرد خطوة منفردة، دون إجراءات ردعية، فقد يتحول إلى محاولة لتبييض السجل السياسي لتلك الدول، دون أن يحقق اختراقا حقيقيا لصالح الشعب الفلسطيني.

هل يشكل هذا الاعتراف قاعدة لحراك عالمي أكبر؟

التجارب السابقة تُثبت أن التحولات في السياسة الدولية تبدأ عادة بخطوات رمزية، ثم تتسع تدريجيا. ففي عام 2012، حصلت فلسطين على صفة دولة غير عضو في الأمم المتحدة، بموافقة 138 دولة، لكن ذلك لم يغير شيئا في الواقع الميداني.

اليوم، بعد أن بلغ عدد الدول المعترفة بفلسطين 147 دولة، أي نحو 75% من دول العالم، فإن أي اعتراف جديد من طرف دول غربية وازنة، مثل فرنسا وبريطانيا وكندا وأستراليا، قد يُحدث فارقا كبيرا على مستوى التوازنات داخل المؤسسات الدولية، لا سيما في مجلس الأمن، والجمعية العامة، والمحكمة الجنائية الدولية.

كما أن الاعتراف الغربي بدولة فلسطين، إذا تواصل وتوسّع، سيُقوّض الحجة الإسرائيلية القائمة على اعتبار الأراضي الفلسطينية «متنازعا عليها»، ويُعيد الاعتبار إلى مبدأ الأرض مقابل السلام، وهو ما قد يُعطي دفعة جديدة للديبلوماسية الفلسطينية، ويُعزز جهودها القانونية لمحاكمة قادة الاحتلال على الجرائم المرتكبة في غزة والضفة والقدس.

 منعطف لا يُستهان به

الاعتراف الجماعي المنتظر بدولة فلسطين لا يُنهي المأساة، لكنه يُعلن بداية مرحلة جديدة. مرحلة تتعرّى فيها ازدواجية المعايير، وتنكشف فيها هشاشة السردية الإسرائيلية التي صمدت لعقود بفضل الدعم الغربي المطلق.

إنه اعتراف قد لا يكون كاملا أو كافيا، لكنه يُعد أول خرق جدّي في جدار الصمت، ويشكّل ضغطا متزايدا على دولة الاحتلال التي لم تعد تجد من يدافع عنها دون أن يدفع ثمنا أخلاقيا أو انتخابيا.

في ظل هذه التحولات، تبدو القضية الفلسطينية مرشحة للعودة بقوة إلى صدارة الأجندة الدولية، لا باعتبارها عبئا إنسانيا، بل كقضية تحرر وطني تستحق الإنصاف والدعم.

وما كان مستحيلا بالأمس، بات ممكنا اليوم، في انتظار أن يتحول هذا «الممكن» إلى فعل سياسي مُلزم، يحترم إرادة الشعب الفلسطيني، ويُنهي أطول احتلال عرفه التاريخ المعاصر.

Related posts

الجيش الإسرائيلي: نفذنا غارات ضد حزب الله

Walid Walid

اليونيسيف: استشهاد ما لا يقل عن 322 طفلا وإصابة 609 آخرين في غزة خلال 10 أيام

صابر الحرشاني

نبش قبر الرئيس السوري الاسبق حافظ الأسد ونقل رفاته إلى مكان مجهول

محمد بن محمود

Leave a Comment