بدأ جيش الاحتلال، منذ الليلة الفاصلة بين الأحد الإثنين الماضيين، تنفيذ عملية تطويق مدينة غزة، بعدما شكّلت مذبحة الصحافيين، التي قضى فيها ستة من الزملاء، أبرزهم مراسلا قناة «الجزيرة» أنس الشريف ومحمد قريقع، إشارة الانطلاق لذلك.
وشهدت المناطق الجنوبية الشرقية لمدينة غزة، وتحديداً شارع 8 في حي الزيتون ومحيط مسجد السيد علي، والمناطق الشرقية من حي الصبرة، عمليات تمهيد ناري مكثّف؛ إذ سُجّل، خلال الايام الماضية، تنفيذ عشرات عمليات النسف بواسطة الروبوتات المفخّخة. كما أغارت الطائرات الحربية ووسائط المدفعية على مئات الأهداف، وسط حالة نزوح جماعية نحو المناطق الغربية من المدينة، التي تزدحم بمئات الآلاف من المهجّرين من مناطق شمال القطاع وشرقه.
ويأتي هذا التقدّم الصامت في خطة الاحتلال والتطويق، في وقت يمارس فيه جيش العدو أعلى مستوى من الإغراق في تفاصيل وأخبار موازية، عن خلافات داخل أروقة المؤسّستين الأمنية والسياسية وحتى في وزارة الجيش نفسها، بين رئيس الأركان إيال زامير ووزير الأمن يسرائيل كاتس.
ونقلت «القناة 12» العبرية وصحيفة «هآرتس» تصريحات عن زامير، قال فيها إنّ عائلة رئيس وزراء العدو، بنيامين نتنياهو، قرّرت الإطاحة به، بزعم رفضه الموافقة على خطة احتلال مدينة غزة، فيما عاد الإعلام العبري، اول أمس، إلى الحديث عن موافقة زامير على خطة الاحتلال التي كان قد رفضها سابقاً.
وعلى خط موازٍ، يدير جيش الاحتلال ومن خلفه منظومة الدعاية والإعلام، أكبر عملية تضليل منذ بدء الحرب إذ يواصل منع عمل المنظمات الدولية المكلّفة بإيصال المساعدات وتسليمها على نحو يضمن كرامة النازحين ويحمي إنسانيّتهم ويستعيض عن ذلك بالسماح بدخول عشرات الشاحنات عبر المنافذ الحدودية، التي تحوّلت إلى مصائد يومية للموت، يقضي فيها نحو 50 شهيداً يومياً. أيضاً، يعطي جيش الاحتلال امتياز إدخال عدد محدود من شاحنات البضائع التجارية لـ«مؤسسة غزة الإغاثية»، التي تبيع بدورها «تنسيقات» عبر مؤسّستَي «رحمة حول العالم» و«المطبخ المركزي العالمي» مقابل مبالغ مالية هائلة تصل إلى 150 ألف شيكل لكل شاحنة.
على أنّ هذه السياسة المعتمدة أنتجت صورة مخادعة؛ إذ دخلت كميات محدودة من المواد التموينيّة الأساسية، مثل السكر والأرز وزيت القلي، تُباع بأكثر من 20 ضعف سعرها الطبيعي، أي بما يفوق قدرة أغنى أغنياء غزة في الوضع الراهن، في حين تتواصل عمليات الإنزال الجوي التي قضى بسببها العشرات من الشهداء والمصابين، نتيجة سقوطها على المناطق المكتظّة بالنازحين.
وعبر ربط كل تلك المسارات السياسية، يتبدّى أنّ الاحتلال يمضي في خطّة متكاملة، تصبّ في اتجاه احتلال مدينة غزة، وفق الآتي:
** صدمة اغتيال طاقم «الجزيرة»، وفي مقدّمهم الصحافي أنس الشريف، لإضعاف عملية نقل صورة المجاعة والمجازر الجماعية وتقليل حضور الحدث الغزّاوي في مناطق شمال وادي غزة تحديداً.
** إدخال شاحنات المساعدات بطريقة عشوائية، بما يسمح بإنتاج صورة إدخال المساعدات، من دون تحقيق جدوى كسر المجاعة بشكل حقيقي، ممّا يساهم في تخفيف حدّة الاحتجاج العالمي على هذا الوضع.
** الاستمرار في الإنزالات الجوية التي تسمح لدول العالم بـ«تنفيس» حدّة الاحتقان الداخلي، والظهور بمظهر المهتمّ بالوضع الإنساني.
** المضي في المسار السياسي عبر الانخراط في جولة مفاوضات جديدة للوصول إلى صفقة شاملة، تمتلك إسرائيل دائماً مفتاح تفجيرها والتنصّل من إتمامها حتى في اللحظة الأخيرة.
** الإغراق الإعلامي بالأخبار الموازية، مثل الخلافات الداخلية بين المستويات السياسية والعسكرية والجدل الكبير حول أيّ الخطط أكثر جدوى لإتمام مهمّة الحسم، فضلاً عن خلافات رئيس وزراء الاحتلال مع الائتلاف الحكومي، فيما يعمل الجيش على تجهيز الأرض لسيناريوات التطويق والاحتلال.
وفي المحصّلة، تلتقي هذه الخطوات مجتمعة لتحقيق أهداف عدّة، أهمّها امتصاص ردّة الفعل الدولية، وصناعة مسارات لتشتيت الرأي العام العالمي عن خطورة احتلال القطاع، بينما على الأرض، يعمل جيش العدو بصمت، ويبدأ الهجوم فعلياً، وصولاً إلى تهيئة اللحظة التي سيزعم فيها رفض «حماس» للمقترحات المقدَّمة لها وينتقل إلى الهجوم التامّ على المدينة.