تعتبر السياحة من اهم المجالات في انعاش الجانب الاقتصادي للبلاد خاصة ان تونس تعتبر وجهة سياحية خلابة نظرا لجمالها وموقعها الاستراتيجي و بما اننا على أبواب أجواء صيفية فان الجهات المسؤولة تسعى جاهدة لانعاش هذا القطاع المهم الذي هو احد مصادر تغذية الخزينة العامة للبلاد بالعملة الصعبة إضافة الى ارتباطه بعديد القطاعات الاخرى بما يخلق حركية اقتصادية مهمة تحتاجها البلاد بقوة للخروج من ازمتها المالية والاقتصادية.
وفي هذا الإطار تندرج تحركات الجهات المسؤولة على هذا القطاع عبر السعي الى مواصلة نسق المبيعات نحو تونس من خلال تعزيز الرحلات السياحية نحوها ليس من بلدان أوروبية فحسب بل من اسواق جديدة اسياوية وامريكية وطبعا عربية لمزيد دعم الوجهة التونسية من خلال تكثيف العمليات الترويجية ودفع الاستثمار وتطوير الرحلات الخاصة خارج فترة الذروة الصيفية ونحو مختلف الجهات ودعوة منظمي الرحلات السياحية الى برمجة رحلات عبر مختلف المطارات التونسية من الشمال الى الجنوب بما يخدم برنامجهم في تنويع العرض السياحي لزيادة تدفق السياح الى هذه المناطق.
مثل هذه التحركات تمثل فرصة مهمة لانعاش السياحة التي عرفت تراجعا كبيرا خلال السنوات الفارطة لاسيما خلال موجات”كورونا” وما اصاب سوق أوروبا الشرقية من تراجع بسبب الحرب الروسية الاوكرانية الا ان التحركات لجلب الاهتمام الى الوجهة التونسية ستكون عديمة الفائدة ان لم تكن متبوعة باستراتيجيا ناجعة لاخراج قطاع السياحة من الازمة التي تردى فيها منذ سنوات طويلة حيث ثبت ان اللقاءات التروجية على قيمتها واهميتها لا تكفي لوحدها لإنقاذ قطاع اول مشاكله الترهل الذي أصاب مؤسساته لانعدام الأفكار التطويرية ما جعل قطاعا حساسا يعد احد اهم ركائز الاقتصاد الوطني في وضعية عرجاء منذ سنوات سبقت حتى كورونا .
تفيد الاحصائيات ان السياحة تمثل 10 %من الإنتاج الداخلي الخام وتساهم في توفير أكثر من 150 ألف موطن شغل قار واكثر من 300 ألف موطن شغل موسمي كما تساهم في تغطية عجز الميزان التجاري بنسبة تصل إلى 75 %بمعنى آخر يساهم هذا القطاع في تغطية تكاليف وارداتنا في حدود تلك النسبة التي يجب الوقوف عندها لاهميتها.
هذا القطاع شهد تراجعا كبيرا منذ الثورة حيث بعد ان كان
يستقطب ما معدله خمسة ملايين سائح سنويا فان قدرته توقفت عند 3 ملايين سائح واحيانا اقل كما كان رافعة مهمة للاستثمارات على مستوى الصناعة السياحية, وقد بلغ حجم الاستثمار في هذا القطاع 1.200 مليون دينار من عام 2006 الى عام 2010 يعني بمعدل استثمار يقارب 250 مليون دينار سنويا. لكن ما جعل تلك الاستثمارات عبثية هو ان حجم استثمارات التجديد فيها وصل إلى 27فقط %ما يعكس تدني البنية التحتية لمنشآت هذا القطاع التي لم تعد تستجيب لمتطلبات الحرفاء.
الثابت ان القطاع السياحي في تونس كان يشكو منذ عقود من خلل هيكلي مزمن. هذا الخلل ما فتئ يتعمق على مر الفترات التي شهدتها بلادنا دون أن يسعى احد إلى تدارك المطبات الهيكلية التي أصابته وهي على نوعين الأول يتعلق بالسياسة العامة للدولة و الثاني يخص ملامح القطاع نفسه.
بالنسبة للسياسة العامة يجب التذكير أنه منذ الثمانينات اعتمدت الدولة سياسة تنشيطية مدمرة لهذا القطاع تتلخص في إجراءين الأول هو التخفيض الهائل في قيمة الدينار وهو ما أعطى انطباعا أوليا على القدرة التنافسية لهذا القطاع في الأسواق العالمية لينضاف إليها إجراء ثان لا يقل سلبية عن الأول و هو سياسة تكسير الأسعار من طرف المهنيين بعلم الدولة وقتها بحيث انه كلما كانت هناك مصاعب في هذا القطاع لجأت الحكومة او المهنيين إلى الاعتماد على هذين العاملين أو أحدهما لتنشيط الحركة السياحية. مما انعكس بالسلب على مردودية النشاط السياحي و أدى إلى تدهور الخدمات السياحية كما أثر بشكل مباشر على نوعية السائح نفسه وهو ما يترجمه ان تونس أصبحت سوقا لمواطني بلدان المنظومة الاشتراكية السابقة والذين يحلون ببلادنا دون أموال مهمة يمكنها تنشيط القطاع السياحي على مستوى الاستهلاك لان دخلهم في بلدانهم ضعيف أصلا وياتون الينا للتنعم بالشمس والبحر مع ملازمة الفنادق ليصل انفاقهم الى الصفر تقريبا بل يصيرون عبئا على الفنادق ذاتها لانهم يفرطون في الاستهلاك بشكل كبير.
أما العنصر الثاني المتعلق بخصوصيات القطاع نفسه فيتلخص في اقتصار القطاع على الاستفادة من الخصائص الطبيعية للبلاد أي الشمس و البحر دون التفكير في خلق أو إحداث منتجات مكملة حيث لم نهتم مثلا بالتنشيط السياحي كما لم نهتم بالسياحة الثقافية و السياحة البيئية والسياحة الاستشفائية وسياحة المؤتمرات وغيرها من المنتجات التي كان بإمكانها استقطاب سياح جدد وخاصة سياح اثرياء بإمكانهم الانفاق في تونس وتحريك القطاعات المرتبطة بالسياحة ورغم ان تونس تمتلك خامات مهمة في السياحة البيئية لامتلاكها لجبال يمكن ان يتم فيها توفير محميات طبيعية متنوعة وتهيئة عمال مختصين في هذا المجال يحسنون القيام بمهام الدليل للسياح في المناطق الغابية التونسية مع تنشيط الجهات التي توجد بها مناظر طبيعية ممتازة في شمال البلاد وجنوبها اذ رغم الاهتمام بالسياحة الصحراوية الا ان عائداتها ضعيفة لضعف الاقبال عليها والتي لو تم الاهتمام بها ترويجا وأيضا تكوينا للعاملين فيها لتم تنشيط منطقة الصحراء والجريد في الشتاء حين تتراجع اعداد الوفود السياحية.
من الغريب ان السياحة التونسية مازالت تعتمد على السياحة الشاطئية الساحلية، لانه حتى السياحة الصحراوية ليست سياحة إقامة بأتم معنى الكلمة ويتواصل الاعتماد على نفس المنتوج رغم ثبوت افلاسه وتراجع قدرته على استقطاب السياح ما يدل على ان القائمين على القطاع واهل المهنة لم يرصدوا مكامن الخلل ونقاط الضعف بل ربما لم يكتسبوا أي خبرة تعينهم على تطوير القطاع لان التراجع مستفحل منذ اكثر من ثلاثة عقود وعديد المؤسسات السياحية أغلقت أبوابها وعديد الشركات افلست وصارت السياحة عبئا على الدولة بعد ان كانت رافدا مهما لميزانيتها وهذا مرده افراط أصحاب المؤسسات في الشكوى واتكالهم على الدولة لتمويلهم بشروط ميسرة ودون ان يقوموا بسداد ما عليهم رغم ان الدولة منذ عام 2003 قررت انشاء مرصد سياحي لمتابعة أداء القطاع عن قرب والقيام بالدراسات التقييمية في الابان لكن يبدو ان هذا لهيكل لم يقم بما هو مطلوب منه.
كان من الممكن الاستفادة من تراث تونس في استقطاب السياح وهي تجربة معتمدة في الهند والدول الاسياوية بشكل كبير حيث يتم اطلاع السياح على نمط عيش اهل الأرياف عبر الاعتماد على السياحة الأهلية التي كان يمكن أن تشكل ميزة مهمة لتونس نجحت في الجنوب الى حد ما في التعريف بـ”خبز الملال” و”المطبقة” وكيفية العيش في الصحراء وهذا الامر لو تم كان سيمكن من انخراط المحيط الاجتماعي في الدورة السياحية عبر التعريف بنمط العيش ونمط الإنتاج والحياة عامة في التجمعات الأهلية الريفية وهو ما سيخلق دورة اقتصادية في مناطق مهمشة بل ربما فتحها امام السياحة سيساهم في استقطاب المستثمرين والتعريف بثرواتها المخفية.
كما ان المناطق السياحية نفسها في تونس لا وجود لاي تواصل بينها وبين السياح الذين يتقوقعون في الفنادق التي ينزلون بها دون ان يبتعدوا عنها ولو لامتار قليلة ما جعل الأنشطة المرتبطة بالسياحة في حالة موت بطيء فالصناعات التقليدية افلست مؤسساتها او تكاد ولم تستفد المحلات التجارية في المناطق السياحية ولا المطاعم ولا أي مشروع انجزه صاحبه طمعا في الاستفادة من المنطقة كوجهة سياحية جاذبة فلو تم التفكير في تنشيط المناطق السياحية عبر اعتماد أنشطة ومنتجات تدفع السائح الى الخروج من النزل لتم الترفيع في نسق انفاقه ولصار السائح الثري الراغب في ان يتحرك وان يتعلم وان يقف على التنوع الثقافي والحضاري الذي من اجله غادر بلاده لانه يريد ان يقضي عطلة “حية” لا ان ينفق وقته في السباحة والاكل والنوم والرقص على وقع انغام غربية ملّ منها في بلاده.
يبالغ أصحاب المؤسسات السياحية في الشكوى والاتكال على الدولة في حل مشاكلهم المالية التي هي من صنع أيديهم لانه في ظل قصور التصورات والانكفاء على السهولة في تقديم المنتجات السياحية التي تحرك في السائح الرغبة في زيارة بلادنا فمن البديهي ان يتراجع هامش الربح و ان تتعطل المردودية في هذا القطاع إلى الحد الأدنى لتتضاءل المداخيل إلى الحد التي لم تعد تكفي لتغطية النفقات وتدفع عديد النزل الى غلق أبوابها وتسريح عمالها وتصبح مشكلة للدولة بعد ان كانت حلا مهما والغريب ان تزايد مديونية القطاع سببه الاول غياب التأقلم مع متطلبات السائح معتقدين انه يكفي التخفيض في الأسعار حتى تقدم جحافل السياح على بلادنا ما جعل مداخيلهم لا ترقى إلى تغطية نفقات خدماتهم مما أدى في نهاية الأمر إلى عجزهم على سداد ديونهم لدى القطاع البنكي وقلص من قدرتهم على مواصلة الاستثمار ووصل الامر الى افلاس العديد من الوحدات السياحية و في أحسن الأحوال إعادة تصنيفها إلى فئة أدنى ما زاد في نفور السياح من القدوم الى بلادنا ونفرح حين يقدم الينا الفقراء من أوروبا الشرقية.
ان تحسين المنتوج السياحي صار ضروريا عبر تطوير التكوين و الرسكلة لليد العاملة والبحث عن منتوج سياحي مغر وجاذب يتم عبر ضرب اكثر من عصفور بحجر واحد فالعمل على تثمين السياحة البيئية ممكن وتونس تتحوز على منطق خلابة قريبة جدا من المدن الكبرى كما ان جهاتها الداخلية فيها ما يغري السائح على زيارتها بل هناك جهات اثارها غير مثمنة الى اليوم مثل تالة وسبيبة وسبيطلة بالقصرين وجهات عديدة في الكاف وجندوبة وباجة وفي صفاقس ايضا اذ من الغريب ان لا يتوفر الشمال الغربي الا على منطقة سياحية واحدة هي طبرقة والتي كان يمكن الاستفادة من مطارها لتنشيط السياحة بباقي جهات الشمال الغربي خاصة منها الجبلية والغابية والتي لا تحتاج الى استثمارات كبيرة بل يكفي انشاء منازل غابية مبتكرة وجميلة حتى تستهوي السائح الأجنبي والتونسي وتخلق حركية اقتصادية تخرج المنطقة برمتها من الفقر الذي تردت فيه وهو امر ينسحب على صفاقس التي يكاد التونسي لا يعرف بها ان اثارا وان بها جهات يمكن ان تشكل نواة مناطق سياحية مهمة مثل المحرس وباقي مدنها الساحلية وايضا هذا ينسحب على المناطق الصحراوية عبر الاستفادة من مطار توزر والخروج من فكرة ان الجنوب لا توجد به الا جربة ونفطة فقط بل حتى هاتين المدينتين تراجعت بهما السياحة بشكل كبير.