قبل احالة الحكومة مشروع قانون المالية إلى البرلمان في اكتوبر المقبل، برزت خلال الأسابيع الماضية مؤشرات توتر بين الوظيفتين التنفيذية و التشريعية عكستها عدة محطات أظهرت محدودية التنسيق بين الطرفين.
ويشير متابعون إلى أن العلاقة بين الحكومة ومجلس نواب الشعب تتسم بنوع من الجمود منذ بداية الدورة البرلمانية الماضية، تراكمت خلالها خلافات صغيرة ومتوسطة تحولت إلى نقاط توتر معلنة في أكثر من مناسبة، ومع اقتراب موعد إحالة مشروع قانون المالية الجديد ارتفعت حدة الانتقادات خاصة في صفوف لجنة المالية والميزانية.
انتقادات و توترات
وقد احتج رئيس لجنة المالية عبد الجليل الهاني مؤخرا على وزارة المالية بسبب عدم إرسالها المؤشرات الكبرى التي يفترض أن تسبق صياغة مشروع قانون المالية وفق ما ينص عليه الفصل 40 من القانون الأساسي للميزانية، ورأى الهاني أن الحكومة لم تحترم آجالا قانونية واضحة مما أعاق أعمال اللجنة وحرم النواب من الاطلاع المبكر على الفرضيات التي ستبنى عليها المالية العمومية للسنة القادمة، وهو ما اعتبره النواب استخفافا بدورهم الرقابي وغيابا للإرادة في تشريكهم في بلورة السياسات المالية.
وفي ملف آخر تقدم عشرة نواب بشكاية ضد وزارة الطاقة والمناجم بخصوص ما وصفوه بتجاوزات خطيرة في منح امتيازات للشركات الأجنبية في مجال الطاقات المتجددة، حيث اتهم هؤلاء النواب الوزارة بالتفريط في رصيد وطني وبالتلاعب بشروط استغلال المحطات الشمسية، وهو ما يفتح جبهة جديدة من الخلافات مع الحكومة في ظرف حساس تشهد فيه البلاد ضغوطا مالية واقتصادية متزايدة، ويرى بعض النواب أن هذه القضية تكشف غياب الشفافية في إدارة الموارد الاستراتيجية وتؤشر إلى أزمة ثقة عميقة بين البرلمان والحكومة.
كما عبر نواب من كتل مختلفة عن استيائهم من تعاطي الحكومة مع مبادرة تشريعية أطلقها بعضهم تحت عنوان “من طالت بطالتهم”، وهي مبادرة تسعى إلى إقرار إجراءات استثنائية لفائدة العاطلين عن العمل منذ سنوات طويلة. وقد رفض النواب تفسير غياب ممثل الحكومة عن جلسة استماع كانت مقررة قبل العطلة البرلمانية معتبرين أن هذا الغياب رسالة سلبية حول استعداد الحكومة للتفاعل مع المبادرات التشريعية، وأكدوا أنهم سيمررون المشروع للتصويت مباشرة بعد العطلة في صورة استمرار تجاهل الوظيفة التنفيذية.
ولم تقتصر مظاهر التوتر على هذه الملفات بل ظهرت أيضا خلال الدورة البرلمانية السابقة عندما طلبت الحكومة تأجيل جلسة حوار مع النواب ثم قامت بإلغائها لاحقا، مما أثار موجة من الاستياء في أوساط البرلمان .
ويجمع مراقبون على أن قانون المالية يشكل المحور الأساسي للصراع السياسي بين الطرفين، ففي السنة الماضية اصطدمت العديد من مقترحات التعديل بخصوص بعض الإجراءات الجبائية والاجتماعية بتوازنات مالية صارمة تمسكت بها الحكومة ورفضت أي تعديل من شأنه الإخلال بها، وقد خلق ذلك شعورا باللاجدوى لدى النواب الذين رأوا أن الوظيفة التنفيذية تحتكر القرار المالي وتتعامل مع البرلمان كمجرد غرفة تمرير لا أكثر.
ويخشى النواب أن يتكرر السيناريو ذاته هذه السنة خاصة وأن مؤشرات الوضع الاقتصادي مازالت صعبة، فالحكومة تجد نفسها مطالبة بإيجاد حلول عاجلة لتمويل ميزانيتها في ظل شح الموارد وارتفاع خدمة الدين، بينما يسعى النواب إلى تلبية المطالب الاجتماعية لدوائرهم الانتخابية عبر إجراءات اجتماعية أو مشاريع ذات بعد اجتماعي مباشر، وهو ما يجعل الاصطدام بين المنطقين مسألة وقت لا أكثر.
ويرى محللون أن هذا التوتر يعكس إشكالا أعمق في فهم النظام السياسي الجديد يتعلق حيث لم يعد للبرلمان من مكانة في صياغة السياسات الاقتصادية والمالية، و بالتالي فإن مواصلة التفكير بمنطق دستور 2014 يولد ردود فعل غاضبة ويدفع النواب إلى البحث عن ملفات رمزية لمواجهة الحكومة.
ويذهب آخرون إلى أن الحكومة بدورها تواجه ضغطا كبيرا ، مما يجعل هامشها محدودا في التفاوض أو في قبول تعديلات جوهرية على مشروع الميزانية، وهي تسعى إلى تمرير قانون مالية متماسك يحافظ على صورة البلاد المالية أمام الأسواق العالمية حتى وإن أدى ذلك إلى صدام سياسي داخلي.
ويستعد اعضاء مجلس نواب الشعب الى استئناف نشاطهم بداية شهر سبتمبر المقبل وسط هذه الأجواء المتوترة، حيث يتوقع أن يعود الجدل حول المؤشرات الكبرى لقانون المالية وأن تتجدد الأسئلة حول ملفات الطاقة والبطالة والحوارات المؤجلة، ولن يكون من السهل تجاوز هذه التوترات إذا لم تبادر الحكومة بخطوات ملموسة تعيد الثقة وتفتح باب التشاور الحقيقي وفق النواب.
وبشكل عام تبدو اللحظة الراهنة لحظة كشف عن اختبار جديد للعلاقة بين االوظيفتين، فإما أن ينجح الطرفان في بناء أرضية مشتركة توازن بين الحاجات الاجتماعية والضرورات المالية، وإما أن يزداد الشرخ اتساعا ، ومع اقتراب موعد مناقشة مشروع قانون المالية في الغرفتين التشريعيتين يبدو واضحا أن العلاقة بين النواب والحكومة تمر بمرحلة حساسة ستحدد مسار الأشهر القادمة.