38.2 C
تونس
22 أغسطس، 2025
دولي

تصعيد غير مسبوق بين الجزائر وفرنسا: تاريخ من الشد والجذب يعود إلى الواجهة

تعيش العلاقات الجزائرية – الفرنسية واحدة من أسوأ فتراتها منذ سنوات، بعد أن تبادل الطرفان خطوات وقرارات وصفت بغير المسبوقة، في مشهد يعكس عمق التوتر وانسداد قنوات الحوار السياسي بينهما. فالتاريخ الطويل للعلاقات، المليء بالتجاذبات منذ الاستقلال، عاد ليطفو على السطح بقوة، لكن هذه المرة في سياق دولي وإقليمي يضاعف من حدة الأزمة.

بداية الشرارة كانت مع قرار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إصدار تعليمات بتشديد شروط منح التأشيرات للمسؤولين الجزائريين، وتعليق العمل باتفاق الإعفاء الممنوح منذ عام 2013 لحاملي الجوازات الرسمية والدبلوماسية. خطوة باريس جاءت، بحسب متابعين، كردّ مباشر على تحركات جزائرية أزعجت الإليزيه، من بينها تشدد الموقف الجزائري إزاء ملفات إقليمية كالصحراء الغربية، ورفض الجزائر ما تعتبره تدخلات فرنسية في شؤونها الداخلية.

رد الجزائر لم يتأخر. فقد استدعت وزارة الخارجية القائم بالأعمال في السفارة الفرنسية بالجزائر، وأبلغته بإجراءات غير مسبوقة: إنهاء استفادة السفارة من عقارات مملوكة للدولة كانت تحت تصرفها مجاناً، وإعادة النظر في عقود إيجار سابقة بشروط تفضيلية. كما ألغت من جانبها اتفاق الإعفاء من التأشيرة، معتبرة أن فرنسا انتهكت التزاماتها بموجب عدة اتفاقيات ثنائية، من أبرزها اتفاق 1968 بشأن حرية تنقل وإقامة وتشغيل الجزائريين في فرنسا، واتفاق 1974 القنصلي، واتفاق 2013 الخاص بجوازات السفر الدبلوماسية وجوازات المهمة.

الخطاب الجزائري الرسمي وصف الإجراءات الفرنسية بأنها «ابتزاز وضغط» يهدف إلى ليّ الذراع، مؤكداً أن الجزائر لن ترضخ لأي شكل من أشكال الإكراه. أما باريس، فحرصت على إظهار موقفها كخطوة «إصلاحية» لإعادة ضبط العلاقات بما يتماشى مع ما تعتبره التزامات متبادلة، لكن لغة ماكرون وحكومته حملت إشارات واضحة إلى أن فرنسا باتت ترى أن الحوار التقليدي مع الجزائر لم يعد كافياً، وأن الأدوات الضاغطة قد تكون أكثر فعالية.

هذا التراشق السياسي والدبلوماسي ليس حدثاً معزولاً، بل هو امتداد لمسار من الأزمات المتراكمة. فمنذ دعم فرنسا لخطة الحكم الذاتي المغربية في الصحراء الغربية، وهو ملف حساس بالنسبة للجزائر، انحدرت العلاقات بسرعة. تلته خلافات حول قضايا التأشيرات، واعتماد الدبلوماسيين، وملف ترحيل المهاجرين في وضعية غير قانونية، حيث تتهم باريس الجزائر بعدم التعاون الكافي، بينما ترى الجزائر أن فرنسا تفرغ الاتفاقيات من مضمونها وتتنصل من واجباتها الإنسانية والقانونية.

تتجاوز هذه الأزمة الطابع الثنائي، إذ تأتي في سياق عالمي يتسم بإعادة تشكيل التحالفات. فالجزائر عززت علاقاتها في السنوات الأخيرة مع قوى مثل الصين وروسيا وتركيا، وهو ما يُقرأ في باريس كابتعاد تدريجي عن الفلك الفرنسي التقليدي. كما أن ملفات الطاقة، خاصة الغاز الجزائري، أضفت على الخلافات طابعاً استراتيجياً، خصوصاً في ظل حاجة أوروبا الماسة لمصادر بديلة بعد الحرب في أوكرانيا.

في المقابل، تحاول فرنسا إعادة تثبيت نفوذها في شمال أفريقيا والساحل، بعد أن واجهت تراجعاً حاداً في مالي والنيجر وبوركينا فاسو. هذا التراجع دفع باريس إلى التشبث أكثر بالعلاقات مع الرباط وتونس، وربما ممارسة ضغوط على الجزائر لإبقائها في دائرة التوازنات التي تخدم المصالح الفرنسية. لكن حسابات الجزائر مختلفة، فهي ترى نفسها لاعباً إقليمياً مستقلاً، يسعى لإعادة صياغة موقعه في النظام الدولي بما يتماشى مع مصالحه السيادية، بعيداً عن الهيمنة التقليدية.

المؤشرات الحالية توحي بأن الأزمة لن تهدأ سريعاً. فالتصعيد المتبادل قد يفتح الباب أمام إجراءات إضافية، مثل تقليص التعاون الأمني أو الاقتصادي، أو تجميد بعض المشاريع المشتركة. ورغم أن الطرفين يدركان أن القطيعة الكاملة ليست خياراً واقعياً بحكم حجم المصالح المتبادلة، إلا أن استمرار الخطاب الحاد وغياب قنوات التهدئة ينذران بمزيد من التباعد.

الطريق إلى التهدئة يمر حتماً عبر إعادة بناء الثقة، وهو أمر يبدو صعباً في ظل تصلب المواقف الراهنة. فباريس مطالبة بمراجعة نظرتها إلى الجزائر كدولة تدور في فلكها، والاعتراف بحقها في صياغة سياساتها الخارجية دون وصاية. في المقابل، تحتاج الجزائر إلى إدارة خلافاتها مع فرنسا بمنطق يحافظ على مصالحها الاقتصادية والجالية الكبيرة في فرنسا، دون التفريط في ثوابتها السيادية.

الأزمات بين الجزائر وفرنسا ليست جديدة، لكنها هذه المرة تتغذى من سياق دولي متقلب، ومن إرث تاريخي مثقل بملفات لم تُغلق بعد. وإذا لم يتم احتواء الموقف، فقد يجد الطرفان نفسيهما أمام مسار طويل من الشد والجذب، يستهلك طاقتهما ويحدّ من قدرتهما على التعاون في ملفات حيوية للجانبين.

ويبقى السؤال مفتوحاً: هل ستتغلب لغة المصالح على لغة التحدي، أم أن مسلسل التصعيد سيستمر حتى إشعار آخر؟

Related posts

اليونيسيف: استشهاد ما لا يقل عن 322 طفلا وإصابة 609 آخرين في غزة خلال 10 أيام

صابر الحرشاني

مهاجما أنقرة جاءا من سوريا.. تركيا تؤكد مواصلة الحملة ضد حزب العمال

محمد بن محمود

ضربة مصرية تركية للدولار.. هل تتجه القاهرة وأنقرة للعملات المحلية قريبا؟

محمد بن محمود

Leave a Comment