38.2 C
تونس
22 أغسطس، 2025
أخبار الجهات

حنايا زغوان: “أهرامات” تونس المنسيةومفخرة الهندسة الرومانية

من قلب ولاية زغوان، وعلى امتداد أكثر من 130 كيلومترًا، تمتد واحدة من أعظم المعجزات الهندسية التي عرفتها تونس في تاريخها القديم: الحنايا الرومانية. هذه المنشأة المائية الضخمة، التي شُيدت في القرن الثاني للميلاد، ليست مجرد قناة لنقل المياه، بل هي شاهد على عبقرية الإنسان، وعلى قدرة الحضارات القديمة على تطويع الطبيعة لخدمة الإنسان.

منبع الحياة جبل زغوان ومعبد المياه

تبدأ قصة الحنايا من جبل زغوان، حيث ينبع ماء عذب، جذب انتباه الإمبراطور الروماني أدريانوس في الفترة الممتدة بين 117 و138 ميلاديًا. أعجب الإمبراطور بجودة المياه، وأمر بإنشاء شبكة مائية تنقل هذا الكنز الطبيعي من زغوان إلى مدينة قرطاج، التي كانت آنذاك مركز الحكم الروماني في شمال إفريقيا، بعد أن عانت من خمس سنوات من الجفاف القاسي.

و في سفح الجبل، شُيّد معبد المياه، وهو معلم ديني وهندسي في آنٍ واحد، يرمز إلى قدسية الماء في الثقافة الرومانية، ويشكل نقطة الانطلاق لهذه الشبكة المائية العجيبة.

عبقرية البناء الحنايا كأعجوبة هندسية

الحنايا، أو “القناطر المائية”، هي جسور معلقة تعلوها سواقي مغطاة، تمتد فوق أقواس وأعمدة شُيدت من صخور صلبة. يبلغ طولها الإجمالي حوالي 132 كيلومترًا، وتربط بين زغوان وقرطاج، مرورًا بمناطق مثل المحمدية، باردو، وادي الليل، وصنهاجة.

و ما يثير الإعجاب في هذه المنشأة هو دقة الميلان الذي اعتمده المهندسون الرومان، والذي لا يتجاوز 0.29 درجة، ما سمح بتدفق المياه بشكل سلس دون عنف أو انقطاع. هذا الميلان الدقيق، الذي حافظ على استقرار المياه لأكثر من 1800 سنة، جعل المؤرخين يعتبرون الحنايا أكبر مركب هيدروليكي روماني في التاريخ.

و حتى العلامة التونسي عبد الرحمن بن خلدون، في كتابه الشهير “المقدمة”، تحدث عن قوة بناء الحنايا، قائلاً:  “احتاج أهل مدينة تونس انتخاب الحجارة لبنائهم واستجاد الصناع حجارة تلك الحنايا، فتراهم يحاولون هدمها لأيام عديدة فلا يسقط الصغير من جدرانها إلا بعد عصب الريق وتجتمع له المحافل.”

و هذه الشهادة التاريخية تؤكد أن الحنايا لم تكن مجرد مشروع مائي، بل كانت أيضًا تحفة معمارية، صمدت أمام الزمن، والزلازل، وحتى محاولات الهدم المتكررة.

شبكة العيون: من عين نافا إلى عين جور

و لم يقتصر المشروع على عين واحدة، بل شمل عدة منابع مائية، منها عين نافا (عين زغوان) ، عين عياد، عين بن سعيدان ،عين زيقا ،عين جور بمنطقة جبل الفحص و عين بوسعدية في جبل برقو

كل هذه العيون تلتقي في منطقة مقرن، حيث تبدأ الحنايا في الانبساط، ثم ترتفع تدريجيًا لتصل إلى قرطاج، في مشهد هندسي مذهل.

احتفال إمبراطوري في افتتاح الحنايا

اكتملت أشغال الحنايا سنة 166 ميلاديًا، في نفس الفترة التي انتهى فيها بناء حمامات أنطونيوس بقرطاج. وقد استُقبلت مياه زغوان وسط احتفالات ضخمة، امتدت لأسابيع، بأمر من الإمبراطور، في مشهد يخلّد انتصار الإنسان على الجفاف، ويحتفي بعبقرية الهندسة الرومانية.

و لكن كما هو الحال في كثير من الحضارات، لم تسلم الحنايا من الصراعات. فقد دُمرت أجزاء كبيرة منها خلال الاقتتال الداخلي بين الرومان، ما أدى إلى توقف المشروع جزئيًا، وترك أجزاء منه في حالة خراب.

إحياء الحنايا: المستنصر بالله الحفصي

في القرن الثالث عشر، خلال حكم الخليفة الحفصي المستنصر بالله، تقرر ترميم الحنايا وإعادة الحياة إليها. أُضيفت حنايا جديدة لتزويد مدينة تونس بالماء الصالح للشرب، وسقي منتزهات رأس الطابية، جنان أريانة، وحدائق جامع الزيتونة.

حيث استفاد المستنصر من تقنيات عصره، ونجح في إعادة تشغيل أجزاء من الشبكة، التي لا تزال تعمل في بعض النقاط إلى يومنا هذا.

و في سنة 2012، تم تسجيل موقع شبكة قنوات مياه زغوان ضمن القائمة الإرشادية المؤقتة لمواقع التراث العالمي لليونسكو، اعترافًا بقيمتها الثقافية والهندسية، وبدورها في تاريخ تونس والمنطقة المغاربية.

الحنايا اليوم إرث منسي أم كنز ينتظر الإحياء؟

رغم هذه القيمة التاريخية، لا تزال الحنايا تعاني من الإهمال والتهميش. الكثير من التوانسة لا يعرفون عنها شيئًا، رغم أنها تضاهي في عظمتها قنوات المياه الرومانية في روما نفسها.

و في زمن تتعطش فيه تونس إلى مشاريع سياحية وثقافية تُعيد الاعتبار لتراثها، تبقى الحنايا فرصة ذهبية لإحياء الذاكرة، وربط الماضي بالحاضر.

الحنايا ليست مجرد حجارة… إنها قصة شعب

الحنايا بزغوان ليست مجرد بناء روماني، بل هي قصة مقاومة للجفاف، قصة عبقرية هندسية، وقصة تواصل حضاري بين العصور. من الإمبراطور أدريانوس إلى المستنصر بالله، ومن قرطاج إلى تونس العاصمة، ومن عين نافا إلى جامع الزيتونة، تمتد هذه القناطر كأنها شرايين تربط جسد الوطن بروحه.

فهل نعيد لها الحياة؟ هل نُعلّم أطفالنا أن في زغوان، تحت ظلال الجبل، توجد أهرامات تونس الحقيقية؟  

الجواب ليس في كتب التاريخ فقط، بل في إرادتنا نحن، أن نُحيي ما مات، ونُعيد الاعتبار لما نُسي.

Related posts

منزل بوزلفة ..افتتاح مشروع لفائدة منظوري الاتحاد التونسي لإعانة القاصرين ذهنيا

محمد علي

سليانة: تقدّم بأكثر من 80% في أشغال مشروع دار رعاية كبار السن

marwa

قرمبالية: أهالي بني عياش يحتجون ويقطعون الطريق

سماح باشا

Leave a Comment