27.6 C
تونس
22 أغسطس، 2025
وطنية

أكاذيب تهدد المجتمع

اندفعت صفحات التواصل الاجتماعي في الأيام الأخيرة إلى نشر أخبار مثيرة حول ما قيل إنه تورط إحدى المصحات الخاصة في مدينة صفاقس في المتاجرة في الأعضاء البشرية، وقد استقبل الرأي العام هذه الأخبار بذهول وصدمة بينما تسابقت جهات مختلفة إلى التعليق دون انتظار تحقق أو تدقيق.

لقد تحولت الإشاعة حقيقة إلى معضلة متجددة تهدد المجتمع في بنيته العميقة، فهي لا تكتفي بإثارة البلبلة بل تتجاوز ذلك إلى المساس بالأمن العام وبسمعة المؤسسات والأفراد.

وما وقع في الأيام الأخيرة يعكس بدقة هذا الخطر، إذ وجد المواطن نفسه أمام خبر مفزع يربط بين مؤسسة صحية خاصة وبين نشاط إجرامي يتعلق بالمتاجرة في الأعضاء البشرية، وهي جريمة يعاقب عليها القانون وتثير حساسية قصوى لدى الرأي العام لأنها تمس الجسد الإنساني في قدسيته،وبمجرد انتشار الخبر اندفع الكثيرون إلى إعادة نشره دون تفكير، وتناقلته الصفحات بسرعة كبيرة حتى صار موضوعا وطنيا رغم غياب أي دليل أو إعلان رسمي.

إن هذه الواقعة تكشف أن المجتمع لم يطور بعد ثقافة راسخة في التعامل مع الأخبار التي تصدر عبر المنصات المفتوحة، فالمعلومة مهما بلغت خطورتها يمكن أن تنتشر كالنار في الهشيم لمجرد أن شخصا ما كتبها أو ادعى أنه مطلع عليها، في حين أن المؤسسات الرسمية والجهات القضائية تحتاج إلى وقت لجمع المعطيات والتثبت قبل إعلان أي موقف، وبين سرعة النشر وبطء التحقيق تتسلل الإشاعة وتبني لنفسها حياة كاملة داخل الفضاء العام.

ويعلم الجميع أن مدينة صفاقس تضم عددا كبيرا من المصحات الخاصة التي تقدم خدمات طبية لآلاف المرضى من تونس وخارجها، وأن سمعتها بنيت عبر عقود من العمل ، غير أن إشاعة واحدة قادرة على تدمير كل ذلك، فهي تلقي بظلال الشك على كل نشاط طبي وتثير الريبة في نفوس المرضى وعائلاتهم، وتضع الأطباء والممرضين في موضع اتهام جماعي رغم أنهم لم يكونوا طرفا في ما يقال، وهذا يبين أن الإشاعة لا تضر بالجهة المستهدفة فحسب بل تصيب محيطها بأكمله وتضرب ثقة المجتمع في قطاع حساس كالصحة.

ومن الايجابي ان وسائل الاعلام التزمت الحذر وامتنعت عن إعادة نشر ما تداوله رواد التواصل الاجتماعي، لكن الضرر كان قد وقع بالفعل، إذ تحول الخبر إلى حديث الناس في المقاهي والبيوت ووسائل النقل،ومن هنا يتضح أن الإشاعة حين تنطلق لا يمكن السيطرة عليها بسهولة، فهي تملك قوة ذاتية نابعة من طبيعتها المثيرة ومن ميل البشر إلى تصديق ما يثير خوفهم أو فضولهم.

ويستوجب هذا الواقع نقاشا جديا حول حدود الحرية في الفضاء الرقمي، فبين الحق في التعبير والحق في المعلومة الصحيحة مسافة يجب أن تضبطها القوانين والرقابة الذاتية. فإذا تُرك الباب مفتوحا لكل من شاء نشر ما يشاء دون ضابط فإن المجتمع بأكمله يصبح عرضة للانفجار في أي لحظة، لأن الإشاعة قادرة على إثارة فتن خطيرة، ولنا في تجارب السنوات الماضية أدلة كثيرة حين انتشرت أخبار عن اختطاف أطفال أو تسميم مواد غذائية أو انهيار مؤسسات مالية، ثم تبين لاحقا أنها مجرد أكاذيب مصطنعة.

وليس خافيا أن بعض الجهات تستعمل الإشاعة كسلاح سياسي أو اقتصادي، فهي وسيلة لتصفية الحسابات أو لضرب مؤسسات بعينها أو لإرباك السلطات. وما حدث مع المصحة في صفاقس قد يكون جزءا من هذا المسار، إذ لا يستبعد أن يكون وراءه منافسون أو خصوم أو حتى أطراف أجنبية تسعى إلى تشويه صورة البلاد في الخارج. فمجرد انتشار خبر عن المتاجرة في الأعضاء البشرية كفيل بأن يضع سمعة تونس الطبية موضع تساؤل في محيطها الإقليمي والدولي.

إن خطورة هذه الظاهرة تكمن أيضا في انعكاساتها الاجتماعية والنفسية، فالمواطن الذي يتلقى يوميا سيل الإشاعات يفقد تدريجيا ثقته في المؤسسات الرسمية وفي وسائل الإعلام التقليدية، ويتحول إلى شخص حائر لا يعرف أي مصدر يصدق. وهذا المناخ من الشك والريبة يضعف مناعة المجتمع ويجعله قابلا للتلاعب. فالإشاعة تعمل على ضرب الثقة وهي العمود الفقري لأي استقرار اجتماعي.

ولعل الأدهى من ذلك أن بعض الإشاعات تتحول بمرور الوقت إلى ما يشبه الحقيقة في الوعي الجماعي، حتى وإن تم تفنيدها رسميا. فالإنسان يميل إلى الاحتفاظ بما يسمعه أول مرة أكثر مما يحتفظ بالتكذيب اللاحق، وهذا ما يجعل التصدي للإشاعات مهمة معقدة تتطلب استراتيجية متكاملة تشمل الإعلام والتعليم والتشريعات.

ولا يمكن إغفال دور المواطن نفسه في مواجهة هذه الظاهرة، فكما ينقل الإشاعة يمكنه أيضا أن يوقفها عبر الامتناع عن نشر ما لم يثبت، وعبر محاورة من يصدقها أو يروج لها. لكن هذا الدور يحتاج إلى وعي وإلى ثقافة إعلامية رقمية لم تتكرس بعد في بلادنا.

إن حادثة صفاقس الأخيرة يجب أن تكون جرس إنذار يدعو الجميع إلى التحرك، فالمصحات التي شعرت بضرر مباشر مطالبة بالدفاع عن سمعتها عبر اللجوء إلى القضاء، والسلطات مطالبة بسرعة التوضيح كلما ظهر خبر خطير، ووسائل الإعلام مطالبة بتكثيف جهودها في تدقيق الأخبار قبل نشرها فالأمر لا يتعلق بحرية فردية بل بسلامة مجتمع كامل.

Related posts

سليانة: القبض على حارس مؤسسة تربوية يُروج المخدرات في صفوف التلاميذ

سنية خميسي

من أجل تدليس العملة: الاحتفاظ بـ 5 اشخاص بسوسة

Na Da

الطقس هذه الليلة

Moufida Ayari

Leave a Comment