27 أكتوبر، 2025
الصفحة الأولى

زيت الزيتون.. ذهب تونس الأسود يشق طريقه لإنعاش الاقتصاد الوطني

تحوّل زيت الزيتون في تونس هذا العام إلى ما يشبه «الذهب الأسود» الجديد، لا بمعناه الرمزي فحسب، بل كرافعة اقتصادية حقيقية قادرة على إنعاش الدورة المالية للبلاد في مرحلة دقيقة تتسم بندرة الموارد وتراجع الإنتاج في قطاعات أخرى. فالمعطيات الأولية تشير إلى موسم استثنائي بكل المقاييس، يُنتظر أن يبلغ فيه الإنتاج الوطني من زيت الزيتون نحو 500 ألف طن، أي بزيادة تفوق 30 بالمئة عن الموسم الماضي، وهو ما يجعل تونس على أعتاب تحقيق عائدات قياسية قد تتجاوز 3.3 مليارات دولار، أي ما يعادل نحو 15 بالمئة من ميزانية الدولة.

هذا الموسم الذي وصفه الخبراء بـ«القياسي» يأتي في ظرف دولي استثنائي بدوره، إذ تشهد عدة دول رائدة في إنتاج الزيتون مثل إسبانيا وإيطاليا واليونان تراجعًا حادًا في صاباتها بسبب التغيرات المناخية والجفاف وتقلص المساحات المزروعة. وهو ما يجعل من الموسم التونسي الحالي فرصة اقتصادية نادرة لتثبيت موقع البلاد في صدارة الأسواق العالمية، خصوصًا وأن الطلب الدولي على زيت الزيتون فاق العرض لأول مرة منذ سنوات.

ذهب أسود قادر على إنعاش الاقتصاد

يؤكد خبراء الفلاحة أن تونس تمتلك اليوم كنزًا استراتيجيًا قادرا على إنعاش اقتصادها، إذا ما تم حسن التصرف في هذا المحصول. فزيت الزيتون ليس مجرد منتوج فلاحي موسمي، بل هو ثروة وطنية تمس حياة نصف التونسيين بشكل مباشر أو غير مباشر، من الفلاحين إلى أصحاب المعاصر والعاملات الفلاحيات والمصدرين. كما يمثل المصدر الأول للعملة الصعبة في البلاد متفوقًا على الفسفاط والسياحة.

ويشير المختصون إلى أن بلوغ إنتاج بـ500 ألف طن يعني إمكانيات تصديرية ضخمة، يمكن أن تحقق لتونس ما بين 10 إلى 20 مليار دينار من العائدات في حال تم الترفيع في نسبة التعليب والتصدير نحو الأسواق البعيدة. فالتجارب المقارنة تؤكد أن زيت الزيتون المعلّب يضاعف المداخيل أكثر من ثلاث مرات مقارنة بالزيت السائب، وهو ما يتطلب رؤية استراتيجية واضحة تقوم على تثمين المنتوج وتعزيز قيمته المضافة.

إجراءات حكومية داعمة

استشعارًا لأهمية هذه المرحلة، أشرفت رئيسة الحكومة سارة الزعفراني الزنزري يوم السبت 25 أكتوبر 2025 على مجلس وزاري مضيّق خُصّص لمتابعة الاستعدادات لإنجاح موسم الزيتون 2025-2026، حيث تم إقرار جملة من الإجراءات العملية على ثلاثة مستويات: الإنتاج، الخزن، والتمويل.

فعلى مستوى الإنتاج، تم الاتفاق على توفير اليد العاملة اللازمة لموسم الجني وتأمين وسائل النقل والسكن للعاملات، مع إسناد الأولوية لصغار الفلاحين في المنح الخاصة باقتناء تجهيزات الجني الآلي، وهي خطوة اعتبرها الخبراء أساسية لتقليص كلفة الإنتاج ورفع المردودية.

أما في ما يتعلق بالخزن، فقد تم تكليف الديوان الوطني للزيت بتخزين ما بين 100 و150 ألف طن من الزيت عند الحاجة، مع صرف منحة خزن ومنحة إضافية للفلاحين، فضلاً عن ضمان الدولة لتمويل عمليات الشراء من قبل الديوان عبر البنوك العامة والخاصة، وذلك لتفادي الضغط على الأسعار وتمكين الفلاحين من بيع منتوجهم بسعر عادل.

وفي جانب التمويل، كُلّف البنك المركزي بالتدخل لدى البنوك لإعادة جدولة ديون أصحاب المعاصر المتعثرين، مع دعوة المؤسسات البنكية إلى مساندة صغار الفلاحين في جميع مراحل الموسم من الجني إلى التصدير. كما تم التمديد في آجال توطين عائدات التصدير وتشجيع تصدير الزيت المعلّب نحو الأسواق البعيدة. وهي قرارات رحب بها الفاعلون في القطاع، معتبرين أنها تعكس إرادة سياسية واضحة لجعل زيت الزيتون في صدارة أولويات الدولة الاقتصادية.

بين التحديات والفرص

ورغم هذا المناخ الإيجابي، يحذر الخبراء من بعض التحديات التي قد تعيق الاستفادة الكاملة من الموسم القياسي، أهمها إشكالية الديون القديمة التي تثقل كاهل أكثر من 70 ألف فلاح، حيث يصعب على العديد منهم الحصول على تمويلات جديدة دون تسوية أوضاعهم البنكية. وقد دعا مختصون إلى مبادرات تشريعية عاجلة لتأجيل أقساط الديون أو إعادة جدولتها بشروط ميسرة، حتى يتمكن الفلاحون من خوض الموسم دون اضطرار لبيع محصولهم بسرعة تحت ضغط المصاريف.

ومن المقترحات التي طرحها عدد من الفاعلين في القطاع، تسهيل اقتناء زيت الزيتون للمواطنين وخاصة الموظفين عبر قروض قصيرة المدى، ما يساهم في رفع الاستهلاك المحلي للزيت الطبيعي وتقليص الاعتماد على الزيوت النباتية المستوردة. فالمعدل الحالي لاستهلاك التونسي من زيت الزيتون لا يتجاوز 3 لترات في السنة، بعد أن كان يتراوح بين 10 و15 لترًا في السبعينيات، وهو تراجع كبير يعكس تغير أنماط الاستهلاك وضعف الوعي الغذائي رغم وفرة المنتوج.

الترويج الخارجي ضرورة وطنية

يرى المتخصصون أن المرحلة المقبلة تتطلب انخراطًا أكبر من الدبلوماسية التونسية في دعم هذا القطاع الاستراتيجي. فزيت الزيتون التونسي أصبح اليوم يحظى بمكانة عالمية بفضل جودته العالية ونقائه البيئي، لكن ما يزال في حاجة إلى ترويج وتسويق أفضل في الأسواق الجديدة مثل الصين وروسيا والبلدان الإفريقية.

وقد دعا الخبراء إلى تنظيم أيام ترويجية في السفارات التونسية بالخارج للتعريف بالمنتوج الوطني وتشجيع المستثمرين والمستهلكين الأجانب على اقتنائه، معتبرين أن تحسين صورة الزيت التونسي في الخارج لا يقل أهمية عن تطوير وسائل الإنتاج والتعليب في الداخل.

بين رهانات الحاضر وآفاق المستقبل

الواقع أن قطاع الزيتون يمس أكثر من 50 بالمئة من السكان سواء مباشرة أو عبر الأنشطة المرتبطة به، ما يجعله ركيزة اجتماعية واقتصادية بامتياز. وإذا ما نجحت تونس في تثمين هذا الموسم الاستثنائي، فإنها لا تضمن فقط مداخيل مالية كبيرة، بل أيضًا تحرك عجلة التشغيل في المناطق الريفية وتعزز مكانتها الدولية كقوة فلاحية متوسطة الحجم ذات منتوج نوعي عالمي.

ويجمع الخبراء على أن المرحلة الحالية تمثل منعرجًا حاسمًا، فإما أن تستغل تونس هذا «الذهب الأسود» لتقليص عجز ميزانها التجاري وتحقيق قفزة اقتصادية نوعية، أو تهدر الفرصة نتيجة البيروقراطية وضعف التنسيق بين الأطراف المعنية.

اليوم، الكرة في ملعب الدولة والفلاح والمصدر والمؤسسات المالية على حد سواء. فالموسم الاستثنائي الذي يلوح في الأفق ليس مجرد موسم وفرة، بل امتحان حقيقي لنجاعة السياسات العمومية في إدارة الثروات الطبيعية والبشرية. وإذا ما تم التعامل مع هذا المحصول بعقلية جديدة تقوم على التخطيط والاستباق، فإن زيت الزيتون لن يبقى مجرد منتوج فلاحي، بل سيصبح رمزًا للنهضة الاقتصادية التونسية القادمة.

إن تونس التي زرعت الزيتون منذ قرون، مدعوة اليوم إلى جني ثماره بما يليق بتاريخها ومكانتها، لتثبت للعالم أن خضرة الزيتون يمكن أن تضيء طريقها نحو الاستقرار والازدهار.

Related posts

معهد الرصد الجوي:ارتفاع في الحرارة و لا وجود لموجة حرّ

صابر الحرشاني

تونس تودع ملف ترشيح سيدي بوسعيد على قائمة التراث العالمي لليونسكو

صابر الحرشاني

رئيس الجمهورية:العالم بأسره يحتاج مقاربات جديدة

صابر الحرشاني

Leave a Comment