25.8 C
تونس
6 أغسطس، 2025
وطنية

الوعي بالتغيرات المناخية ضرورة جماعية

قبل ايام اجتاحت موجة حر استثنائية مختلف مناطق البلاد، فبدت المدن بلا ظلّ، وارتبكت الحياة اليومية أمام حرارة تجاوزت ما اعتاده التونسيون، دون أن يرافق هذا الواقع نقاش عام حول السياق المناخي الذي أنتج هذه الفورة الحرارية المتصاعدة.

وتتطلب هذه المؤشرات المناخية الحادة إعادة بناء الوعي الجماعي حول تغيّر المناخ، لا بوصفه ظاهرة علمية أو معطى خارجيا، بل باعتباره جزءا من شروط العيش اليومي، ومن محددات السياسات الوطنية.

ويبدو أن الوعي بخطورة التحولات المناخية ما يزال مشوشا، تغذّيه مشاهد حرائق الصيف أو مشكلات شحّ المياه، لكنه لا يترسّخ داخل الوعي كسؤال دائم أو كمطلب معرفي أو كمحور سياسي مستقر.

ولا تنفصل هذه الموجة الحرارية الأخيرة عن سلسلة من الظواهر البيئية التي أصبحت تتكرر بوتيرة متسارعة، مثل الجفاف المستمر، وتراجع منسوب السدود، وانحباس الامطار، وزيادة الضغط على الموارد الطبيعية، لكن غياب الربط بين هذه الأحداث وبين الظاهرة المناخية الكبرى يجعلها تبدو معزولة، ويحول دون بلورة وعي مجتمعي قادر على الاستجابة العقلانية.

وتتحمل المدرسة مسؤولية محورية في بناء هذا الوعي، إذ لا يمكن لأي تحول إدراكي أن يكتمل دون المرور من المؤسسة التربوية. غير أن المقاربات البيداغوجية الحالية ما تزال تكتفي بإشارات مقتضبة إلى التغيرات المناخية، دون أن تحوّلها إلى محور مستقل في البرامج، أو إلى مادة تربوية ذات بعد عملي وتطبيقي، ويُفترض أن تتجاوز المناهج مرحلة تقديم المعلومات لتصل إلى بناء مهارات وسلوكيات مسؤولة.

ويغيب عن الكتب المدرسية تمثيل واضح للتغير المناخي باعتباره واقعا محليا، إذ يقدم غالبا في صورة أزمة عالمية لا تمس البلاد مباشرة، ما يجعل التلميذ غير معني بهواجس التغير المناخي، ويمنعه من الربط بين ارتفاع الحرارة وبين نمط استهلاكه أو نوعية سلوكه البيئي، ولا يقتصر الخلل على المحتوى، بل يمتد إلى التكوين المستمر للإطار التربوي، الذي يظل بدوره خارج دوائر التمكين المناخي.

ويؤدي هذا الانقطاع إلى إضعاف قدرة الأجيال الناشئة على تطوير خطاب نقدي تجاه سلوك المجتمع ومؤسساته إزاء البيئة، فالمطلوب اليوم هو تأسيس ثقافة مناخية تتخذ شكل مبادرات مدرسية، وتربط بين المعرفة والممارسة، وتزرع في الناشئة حسّ المساءلة والمسؤولية تجاه المحيط الطبيعي.

ولا يمكن لهذا الوعي أن يترسخ دون أن يكون جزءا من سياسة وطنية مندمجة، تجعل من التغير المناخي أحد المحاور المركزية في التخطيط التنموي، وفي تقييم المخاطر، وفي ضبط أولويات الاستثمار العمومي.

ويبدو أن البرامج العمومية المتعلقة بالبيئة لا تزال مشتتة، وتفتقر إلى وحدة تصور أو تنسيق بين الوزارات والجهات المعنية، وهو ما يقلّص من نجاعتها ويحول دون بناء قاعدة مجتمعية داعمة لها، فالمواطن لا يدرك جدوى السياسات البيئية إذا لم يشعر أن حياته اليومية تتأثر بها إيجابيا، وأن قرارات الدولة تنعكس على نوعية الهواء الذي يتنفسه، والماء الذي يشربه، والطاقة التي يستهلكها.

ويفترض الوعي المناخي الجماعي تربية يومية على الترشيد، تتجاوز النصائح العامة لتصل إلى إعادة ترتيب الأولويات في أنماط العيش، فالاستهلاك المفرط للكهرباء أو الماء أو الوقود ليس سلوكا معزولا، بل تعبير عن غياب إدراك بأن هذه الموارد مرتبطة بمنظومة بيئية هشة، وأن التبذير يعني تسريع الانهيار.

وتبقى الحملة التواصلية الرسمية خجولة إزاء هذه التحديات، إذ تركز غالبا على الأرقام أو التحذيرات، دون أن تبني علاقة وجدانية بين المواطن وبيئته. فالمطلوب هو لغة جديدة تربط بين المناخ والهوية الوطنية، تجعل من الحفاظ على البيئة فعلا سياديا، وتزرع لدى الأفراد قناعة بأن الدفاع عن الموارد الطبيعية لا يقل قيمة عن الدفاع عن الحدود أو المؤسسات.

ويحتاج هذا المسار إلى تحالف بين المدرسة والإعلام والمجتمع المدني، في إطار مشروع ثقافي متكامل يُدمج المناخ في النقاش العام، ويصنع رموزه وعباراته وخطابه ومقترحاته. فحين يتحول التغير المناخي إلى موضوع يومي في حوارات الشباب، وفي عروض المسرح، وفي الصحف، وفي المبادرات الأهلية، يصبح بوسعه أن ينتج أثرا يتجاوز النخب والمهتمين.

ويُفترض أن لا تُبنى هذه الثقافة على خطاب التهويل أو جلد الذات، بل على الإحاطة الواعية والتحفيز الفعلي. فالمجتمع لا يتفاعل مع التهديدات المجردة، بل مع الحلول الواقعية التي تتيح له المشاركة والفعل. والمطلوب أن يتحول المواطن من متلقّ للتحذيرات إلى فاعل في المقاومة البيئية، يغيّر سلوكه، ويدفع محيطه للتغيير.

وتنذر المعطيات المناخية الدولية بإمكانية تفاقم الوضع الحراري مستقبلا، وهو ما يُوجب الاستعداد عبر منظومات تربوية وإدارية وتشريعية ومجتمعية منسجمة. فالمعركة المناخية ليست مع الطقس فقط، بل مع ضعف السياسات، وتشتت المقاربات، وغياب الوعي الجماعي المستقر.

وقد يكون الوقت قد حان لإعلان حالة طوارئ مناخية في التفكير، تسبق حالة الطوارئ في الواقع، وتعيد ترتيب العقول قبل أن نُجبر على ترتيب الأنقاض.

Related posts

5 وفيات و293 مصابا ثاني أيام العيد في حوادث مختلفة

Na Da

رئيس الجمهورية: الدولة تتحمل المسؤولية بخصوص أزمة النفايات بصفاقس

root

في جلسة عامة حوارية مع وزير أملاك الدولة: “رئيس البرلمان يؤكد أهمية كل مكونات الرصيد العقاري والفلاحي”

Na Da

Leave a Comment