يعيش عدد من الناجحين في مناظرة الباكالوريا ضغوطا متزايدة على خلفية التوجيه الجامعي مأتاه ميولات العائلة وتدخلاتهم إلى جانب ضيق هامش الاختيار بسبب الاعداد التي تم تحصيلها.
و بعد اعلان نتائج الدورة الرئيسية لمناظرة الباكالوريا و في انتظار اجراء دورة التدارك يستعد آلاف التلاميذ إلى عملية التوجيه الجامعي وسط جو من الترقب والتوتر بوصفها اختبار معقّد لا يقل اهمية عن المناظرة نفسها، و تتقاطع فيه عناصر متداخلة وهي اختيار التلميذ، وإرادة العائلة، ومنظومة التوجيه، وحاجيات سوق الشغل.
ضغوط المعدلات
وتمثل معدّلات النجاح الاداة الحاسمة في رسم مستقبل التلميذ ، ذلك ان المنظومة تفرض الترتيب العددي كشرط أساسي للالتحاق بالشعب المطلوبة، دون أن تتيح هامشًا حقيقيًا للتقييم النوعي للميولات والقدرات الفردية بسبب محدودية مقاعد الدراسة ، حيث يدفع هذا المنطق الآلي عددا كبيرا من التلاميذ إلى إدراج اختيارات لا تتماشى مع طموحاتهم، بل تمثل ما تسمح به معدّلاتهم فحسب.
ويظهر أثر المعدّل بشكل أوضح في شعب بعينها على غرار الطب والهندسة، إذ يصعب الالتحاق بها دون تحقيق معدّلات استثنائية، بينما تواجه الشعب الجديدة والواعدة، خصوصا في مجالات التكنولوجيا والاقتصاد الرقمي واللغات، عزوفًا نسبيًا بسبب ضعف تموقعها في الثقافة الجامعية التقليدية أو بسبب غموض آفاقها التشغيلية في نظر العائلات.
تأثيرات العائلة
وتلعب العائلة دورا محوريا في توجيه الأبناء، لكن هذا الدور يتحوّل في كثير من الأحيان إلى سلطة قرار ضاغطة، حيث يتدخّل الأولياء في اختيارات التوجيه من منطلق الخوف على المستقبل، أو من منطلق تمثّلات اجتماعية راسخة حول القيمة الرمزية لبعض المهن، بما يفرض على التلميذ مسارات معينة لأن العائلة ترى فيها وجاهة اجتماعية، أو امتدادا لمكانة موروثة، دون أن تتوقف لتسأل عن انسجام هذه المسارات مع هوية ابنها أو ابنها.
ويغيب عن هذا التدخل العائلي في كثير من الحالات الإدراك بأن التوجيه الجامعي لا يتعلق فقط باختيار شعبة، بل بتحديد مسار حياة، حيث يطلب من الطالب ان “يتعايش” مع اختصاص لا يشبهه، ويُطالَب بالنجاح في بيئة لا تحفّزه، وتنتج عن هذا الوضع حالات فتور دراسي، وانسحاب نفسي، وإعادة توجيه متأخرة، تُهدر فيها السنوات وتُضعف الدافعية.
و يُضاعف هذا الواقع من تعقيد المنظومة الجامعية، حيث ترتفع نسب الانقطاع عن الدراسة في السنوات الأولى، وتتسع الهوّة بين التكوين وسوق الشغل، و يظهر الإشكال بشكل أكثر وضوحا في الشعب التي تم اختيارها تحت الضغط العائلي أو في غياب معرفة كافية بمحتواها وآفاقها، وتتكوّن فجوة معرفية بين ما كان ينتظره الطالب، وما يواجهه فعليا داخل المدرج أو في التطبيقات العملية.
ويرى مراقبون أن منظومة التوجيه الجامعي في تونس افتقرت في السنوات الماضية إلى مقاربة تشاركية متكاملة، حيث لا يتوفّر للتلميذ مسار إعدادي طويل يُتيح له التعرف على الاختصاصات، ولا يجد أمامه فضاءات مفتوحة للحوار أو الإرشاد الفردي حيث يتم التعامل مع التوجيه الجامعي كمحطة إدارية تُنجز خلال أسابيع معدودة، في حين يتطلب الاختيار الجامعي تفكيرا عميقا، ومرافقة تربوية ونفسية.
المرافقة ضرورية
ومن المهم الاشارة الى أن الايام الوطنية حول التوجيه الجامعي ستستمر بين 17 و 19 جويلية المقبل بمدينة العلوم بالعاصمة، بالتوازي مع الايام الاعلامية الجهوية حول التوجيه الجامعي و التي تتضمن محاضرات حول مجالات الدراسة و اليات التوجيه الجامعي، و لقاءات مباشرة مع الاساتذة الجامعيين للاستفسار حول عروض التكوين و افاقها المهنية و لقاءات مباشرة مع مستشاري الاعلام و التوجيه المدرسي و الجامعي .
ويعاني التلميذ أيضا من نقص حاد في المعلومة الدقيقة والمحيّنة حول المحتوى الفعلي للشعب الجامعية، وطبيعة الدراسة داخلها، ومتطلبات النجاح فيها، وفرص التشغيل المتاحة لاحقًا. ويدفعه هذا الغموض إلى الاعتماد على تقييمات سطحية، أو على آراء أفراد العائلة، أو على تجارب سابقة في محيطه المحدود.
و تُبرز هذه الوضعية حاجة ملحّة إلى إصلاح عميق في مسار التوجيه الجامعي، يتطلب إعادة هيكلة منظومة التقييم والتصنيف، ووضع آليات جديدة لتقييم المهارات والميولات بدل الاقتصار على المعدّل.
كما ينبغي تعزيز دور الإرشاد الجامعي، وتكوين مستشارين مختصين يرافقون التلاميذ بشكل فردي أو في مجموعات صغيرة، كما يجب تطوير المنصات الرقمية لتقديم محتوى تفصيلي وموثوق حول كل شعبة، يشمل الوحدات الدراسية، تقنيات التقييم، متطلبات المهارات، ونسب الانتداب في السنوات الأخيرة.
و لا يمكن تجاوز الأزمة دون مراجعة العلاقة بين التلميذ والعائلة، حيث ان المطلوب من الأسرة أن تؤمن بقدرة أبنائها على اتخاذ القرار، وأن تمارس دور الإسناد .
وتفرض المتغيرات العالمية اليوم ضرورة إعادة التفكير في أسس التوجيه الجامعي، حيث تشهد سوق الشغل تحولات سريعة، وتظهر اختصاصات جديدة لم تكن موجودة قبل سنوات، حيث لم تعد المهن الكلاسيكية وحدها الضامنة للاستقرار، بل تحوّلت الكفاءة والتكيّف والمرونة إلى شروط حاسمة، ومن غير المعقول أن تستمر منظومة التوجيه في تجاهل هذه التحولات، أو في حصر القرار في معدّل أو رغبة أبوين.