لا تزال تونس، منذ عقود، تواجه معضلة حقيقية في علاقتها بكفاءاتها الوطنية، رغم ما تزخر به من عقول لامعة في مختلف المجالات، بدءًا من التعليم والهندسة، وصولًا إلى العلوم والتكنولوجيا والطب. وتتكرّر كل سنة، عند صدور نتائج امتحانات الباكالوريا، ذات الملاحظة المُرّة: بلادنا تُنجب متفوقين من طراز رفيع، ثم تتخلّى عنهم أو تدفعهم، طوعًا أو كرهًا، إلى الهجرة.
وقد أظهرت نتائج دورة الباكالوريا الأخيرة هذه الحقيقة مجددًا، إذ تألّق العديد من التلاميذ بأعداد قياسية ونجحوا في تحقيق معدلات مشرفة تصل في بعض الشعب إلى 19 وأكثر، وهو ما يعكس جودة التعليم في بعض المؤسسات، وجهود التلاميذ، والدور المحوري للعائلة التونسية التي ما زالت، رغم كل التغيرات في المفاهيم، تعتبر التعليم أحد المفاتيح الأساسية للترقي الاجتماعي.
غير أن هذا النجاح المدرسي، الذي يُفترض أن يكون الخطوة الأولى نحو بناء نخب وطنية تسهم في تطوير البلاد، يتحوّل في الواقع إلى جسر نحو الخارج، إذ تسارع الجامعات الأجنبية، خاصة الفرنسية والألمانية والبلدان الناطقة باللغة الانقليزية إلى استقطاب هؤلاء النجباء عبر عروض مغرية للدراسة والمنح وفرص العمل. وهكذا، تتحوّل الكفاءة من رصيد وطني إلى رافد يعزز تقدم بلدان أخرى.
هجرة الكفاءات بالأرقام: نزيف لا يتوقف
تكشف الأرقام الرسمية وغير الرسمية عن حجم النزيف الذي تعاني منه البلاد. فقد صرّحت عمادة الأطباء أن أكثر من 3000 طبيب تونسي غادروا البلاد بين 2018 و2023، بمعدل 600 طبيب سنويًا. أما في قطاع المهندسين، فقد أكدت هيئة المهندسين أن ما يزيد عن 10000 مهندس غادروا تونس خلال السنوات السبع الأخيرة، فيما أشارت تقارير أخرى إلى أن حوالي 60 بالمئة من خريجي المدارس العليا في التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي يختارون مغادرة البلاد بعد ثلاث سنوات من التخرج. كما تُقدّر نسبة الأساتذة الجامعيين الذين غادروا نحو أوروبا أو دول الخليج بما يقارب 15 بالمئة من مجموع الإطار التدريسي الجامعي خلال العقد الأخير.
هذه الأرقام الصادمة تُترجم فشل السياسات العمومية المتبعة منذ عقود في استبقاء النخب، وتطرح إشكالية عميقة حول كيفية توجيه الطاقات الشابة والاستفادة منها قبل أن تصبح رافدًا لتقدّم البلدان الأخرى.
فرص ممكنة… ولكن تحتاج إلى إرادة
الاستفادة من الكفاءات التونسية لا تستوجب دائمًا ميزانيات ضخمة، بقدر ما تحتاج إلى رؤى واضحة وإرادة صادقة. فهناك ثلاث مستويات للعمل :
• استبقاء الكفاءات: ينبغي أن تتحرّك الدولة من أجل خلق بيئة محفزة للإبداع والعمل، وهو ما يمرّ أساسًا عبر إصلاح الإدارة، وتسهيل المبادرة، وضمان ظروف عمل محترمة في المؤسسات العمومية، خاصة في القطاعات الحيوية كالصحة والتعليم والبحث.
• تشجيع الكفاءات المهاجرة على المساهمة عن بعد: بدل أن نخسرها كليًا، يمكن للدولة أن تخلق آليات تمكن التونسيين المقيمين في الخارج من تقديم خبراتهم للداخل. على سبيل المثال، عبر منصات رقمية للتدريس الجامعي عن بعد، أو عبر شراكات بين المخابر البحثية في تونس وتلك في المهجر.
• تحويل الهجرة إلى فرصة: لا يمكن منع الهجرة، ولكن يمكن تحويلها إلى مكسب وطني، عبر برامج لربط الكفاءات التونسية بالخارج بالمشاريع الوطنية، وتحفيزهم على الاستثمار في بلدهم الأم، وتمكينهم من المشاركة في السياسات العمومية، خاصة في مجالات التكنولوجيا، والتعليم، والاقتصاد الأخضر.
نتائج الباكالوريا: مؤشر على الإمكانيات الكامنة
ما شاهدناه في نتائج الباكالوريا الأخيرة ليس حدثًا عابرًا. إنه تجلٍّ لقدرة البلاد على إنتاج عقول قادرة على التميّز في أصعب الظروف. فإذا كان تلميذ في منطقة داخلية أو حي شعبي قادرًا على تحقيق معدلات تنافس كبرى الجامعات العالمية، فذلك يعني أن تونس تملك رأس مال بشري نادرًا ما يتوفر في بلدان مماثلة.
ولكن إذا لم يُتابَع هذا النجاح بمسارات واضحة للدعم، والإرشاد، والتكوين المستمر، فإننا نخاطر بتحويل أحلام شبابنا إلى خيبات، ونبقى ندور في حلقة مفرغة من إنتاج النبوغ ثم هدره.
التمييز الإيجابي في التوجيه الجامعي
من بين الخطوات الممكنة والعملية، التفكير في ربط التوجيه الجامعي بنتائج الباكالوريا وربطه أيضا بحاجيات البلاد الفعلية. يمكن للدولة أن تُطلق برامج خاصة بالنخب المتفوقة، تُوجّه فيها الأوائل نحو تخصصات دقيقة، مع توفير منح داخل تونس، وفرص شراكة مع مراكز بحث عالمية، شرط التزام هؤلاء بالخدمة في البلاد لفترة معينة بعد تخرجهم.
كما يمكن إنشاء مدارس عُليا للنخبة على غرار «بوليتكنيك» في فرنسا، شرط أن تكون ذات استقلالية أكاديمية وتمويل معتبر وشراكات دولية، حتى تحافظ على معايير التفوق والتجديد.
رهان مستقبلي لا يقبل التأجيل
إن السؤال الجوهري اليوم ليس فقط كيف نحتفي بنجاح تلميذ في الباكالوريا، بل كيف نُرافقه ونمنحه الأدوات والإطار المناسب ليتحول من ناجح فردي إلى فاعل في بناء الوطن. فالكفاءات ليست عبئًا بل هي الفرصة الوحيدة المتبقية أمام تونس في زمن الأزمات.
البلاد التي لا تعرف كيف تُدير عقولها، هي بلاد محكومة بالتبعية، وبالهجرة، وبفقدان الأمل. أما تونس، فإنها رغم الصعوبات، ما زالت قادرة على أن تجعل من أبنائها عماد نهضتها فقط إن آمنت بهم، ووضحت لهم الطريق..