قدمت مجموعة من النواب مساء الثلاثاء الماضي مبادرة تشريعية نوعية إلى مجلس نواب الشعب، تقترح سنّ قانون يُحدث خطة “مدرّس مادة التربية على وسائل الإعلام والاتصال” بالمؤسسات التربوية العمومية، وتكليف خريجي معهد الصحافة وعلوم الأخبار بتدريس هذه المادة.
و ينص مقترح القانون في فصله الأول على إحداث خطة “مدرّس التربية على وسائل الإعلام والاتصال” بوزارة التربية، على أن يقع تدريس هذه المادة انطلاقًا من المرحلة الأساسية وتتوسّع تدريجيًا لتشمل بقية المستويات التعليمية، حيث يكون الانتداب، وفق الفصل الثاني، عبر مناظرات تُفتح سنويا لفائدة خريجي معهد الصحافة وعلوم الأخبار.
ولا تتوقف المبادرة عند إحداث مادة جديدة، بل تسعى إلى إعادة صياغة العلاقة بين المتعلم والمعلومة في زمن غزارة الأخبار وتضارب المصادر، ففي الفصل الثالث، يحدّد المقترح أهداف هذه المادة بترسيخ الثقافة الإعلامية لدى التلاميذ، وتنمية الحسّ النقدي لديهم، وتمكينهم من أدوات التمييز بين الأخبار الحقيقية والمزيّفة، وتعزيز مفاهيم المواطنة الرقمية والوعي الحقوقي، وإعدادهم لفهم تحديات العصر الرقمي والذكاء الاصطناعي.
مادة رسمية وتكوين خاص
و يؤكد الفصل الرابع أن إدراج هذه المادة في البرامج الرسمية سيتم تدريجيا ابتداء من السنة الدراسية التالية لنشر القانون بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية، على أن تُخصّص اعتمادات مالية ضمن ميزانية الدولة لتمويل هذا البرنامج ، كما يخضع المنتدبون الجدد لتكوين تحضيري تربوي خاص بالتعاون مع مراكز التكوين البيداغوجي.
أما على مستوى الحوكمة، فتنص المبادرة على إحداث لجنة وطنية مختصة صلب وزارة التربية تتولى تقييم البرامج وتطويرها، وتضم ممثلين عن الوزارات المعنية، والهيكل المهني الأكثر تمثيلًا للصحفيين، ومعهد الصحافة وعلوم الأخبار.
تشغيل حصري لخريجي الصحافة
ينص الفصل السابع من مقترح القانون على إسناد التشغيل في مكاتب الإعلام والاتصال والعلاقات العامة في الوزارات والمؤسسات العمومية والجماعات المحلية، حصريا إلى خريجي معهد الصحافة وعلوم الأخبار، على أن يتم ذلك وفق قانون التناظر في الوظيفة العمومية.
كما يخصّص الفصل الثامن نسبة من الانتدابات السنوية لسدّ الشغورات في مكاتب الإعلام في مختلف مؤسسات الدولة، ويتم ذلك عن طريق مناظرات تفتح حصريًا لخريجي المعهد، بما يعكس توجّها نحو إرساء اختصاصية حقيقية في الوظائف الاتصالية داخل الهياكل العمومية.
و تشير مذكرة شرح الأسباب المرافقة لمقترح القانون إلى أن الثورة الرقمية وانتشار الإعلام الجديد فرضا تحديات غير مسبوقة على المجتمعات، وعلى رأسها تفشّي الأخبار الزائفة، وتضخم منسوب العنف الرمزي وخطابات الكراهية، وضعف الوعي النقدي خاصة لدى الناشئة.
وتمثل المدرسة في هذا السياق، الجبهة الأولى لمقاومة التلاعب بالعقول، ما يستوجب إدماج مادة “التربية على وسائل الإعلام والاتصال” ضمن المنظومة التربوية، لا كمجرد مادة معرفية بل كمشروع مجتمعي لتكوين مواطن رقمي ناقد وواعٍ بحقوقه وواجباته، ومحصّن ضد الدعاية والتضليل.
رهانات
و من الجانب الاقتصادي، تعاني فئة خريجي معهد الصحافة وعلوم الأخبار من نسب بطالة مرتفعة، نتيجة محدودية سوق العمل الإعلامي، ويُقدَّم هذا المقترح فرصة استراتيجية لتثمين كفاءاتهم، والاستفادة من اختصاصهم في قطاع حيوي كقطاع التربية وفق النواب اصحاب المبادرة.
أما على الصعيد التربوي، فإن المدرسة التونسية – بحسب ما جاء في المبادرة – تفتقر إلى مادة متخصصة تُدرّب التلاميذ على تحليل الخطاب الإعلامي، وفهم طبيعة الرسائل التي يتلقونها يوميا، سواء عبر الصحف أو القنوات أو شبكات التواصل الاجتماعي. وتؤكد تقارير اليونسكو واليونيسف أهمية إدراج التربية الإعلامية ضمن المناهج الدراسية لمواجهة تحديات العصر الرقمي، وتعزيز التفكير النقدي، ودعم التربية على القيم وحقوق الإنسان.
تجارب مقارنة
و لم تكن تونس سباقة في طرح هذا النوع من المبادرات، فعدّة دول سبقتها إلى اعتماد التربية الإعلامية كمادة أساسية. ففي أستراليا، تم إدراجها ضمن المنهج الدراسي الإلزامي، كما كانت الفيلبين من أولى الدول الآسيوية التي تبنتها، أما في العالم العربي، فقد سبقت الأردن تونس في هذا المجال، وأدمجت هذه المادة رسميا ضمن مناهجها التربوية.
و يسعى المشروع إلى تحقيق أهداف آنية ومتوسطة وطويلة المدى. فعلى المدى القريب، يهدف إلى إحداث مواطن شغل جديدة، والشروع في تكوين المضامين وتدريب المدرسين، فيما يُرتقب على المدى المتوسط ترسيخ ثقافة إعلامية مدرسية، وبناء شراكات بين وزارة التربية ومعهد الصحافة والهياكل المهنية للإعلام. أما الهدف بعيد المدى، فهو تكوين جيل من المواطنين الرقميين القادرين على تفكيك الخطاب الإعلامي، والمساهمة في تحصين الفضاء العمومي من الأكاذيب والتضليل الإعلامي.
و يُعتبر هذا المقترح خطوة طموحة نحو تحديث المدرسة التونسية، وإعادة تعريف دورها في زمن الثورة الرقمية. كما يُعدّ بوابة لإعادة الاعتبار لاختصاصات أكاديمية كالإعلام والاتصال، التي عانت طويلاً من التهميش في انتدابات الوظيفة العمومية.
لكن هذا المشروع الطموح، حتى يُكتب له النجاح، يحتاج الى تنسيق جيد بين جهة المبادرة و الوظيفة التنفيذية، و الى خلق تكامل فعلي بين وزارات التربية والتعليم العالي والثقافة والاتصال، لضمان تكوين شامل ومضامين حديثة وأطر تدريس مؤهلة. كما يتطلب ضمانات في التمويل، وفي التدرج في التطبيق، دون السقوط في حماس التنظير أو بطء التنفيذ.
و تبقى المدرسة في حاجة ماسّة إلى إصلاحات هيكلية تعيد لها دورها الريادي في تكوين المواطن، لا فقط على مستوى المعارف، بل في الوعي النقدي والقيمي. والتربية الإعلامية، إن حُسن تطبيقها، ستكون أحد مفاتيح هذا التحول المنشود.