ي زمنٍ تتسابق فيه المدن على استقطاب الزوار بشواطئها الصاخبة ومهرجاناتها المتكررة، تقف زغوان بهدوئها النبيل كأنها تهمس: “تعال إليّ… هنا حيث يتعانق الجبل بالماء، وتتنفس الحضارة من بين شقوق الحجر”.
زغوان، المدينة التي لا ترفع صوتها، لكنها تترك أثرًا لا يُمحى في ذاكرة كل من زارها. وجهة صيفية بديلة، لا تكتفي بتلطيف حرارة الجسد، بل تبعث في الروح نسيمًا من الصفاء.
جبل زغوان يروي الحكاية
من أول وهلة، يأسرك جبل زغوان، شامخ، أخضر، صامت كحكيمٍ قديم تتوزع على سفوحه كهوف ومغارات، بعضها مأهول بأساطير محلية، وبعضها الآخر مأهول فعليًا بالخفافيش والطيور الجبلية. هو ليس مجرد جبل، بل كتاب مفتوح لمن يعرف كيف يقرأ التضاريس.
في الصيف، يتحول الجبل إلى مسرح طبيعي مفتوح لعشاق “التفرهيد”، حيث تتناثر العائلات على سفوحه، وتنتشر الخيام الصغيرة، وتعلو ضحكات الأطفال وهم يركضون بين أشجار الصنوبر.
معبد المياه… عبقرية الرومان في حضن الطبيعة
في سفح الجبل، ينتصب معبد المياه، أو كأثرٍ رومانيٍّ فريد. بُني في القرن الثاني ميلاديًا لتغذية قرطاج بالماء عبر قنوات حجرية دقيقة. هنا، لا تكتفي العين بالإعجاب، بل ينحني العقل أمام عبقرية هندسية سبقت عصرها.
المكان ليس مجرد معلم أثري، بل مسرح مفتوح للتأمل، حيث تتقاطع الحضارة مع الطبيعة، ويصبح الحجر شاعرًا يروي قصة الماء.
الزائر لا يحتاج إلى مرشد سياحي ليشعر بعظمة المكان، فكل قوس، وكل نقش، وكل قناة مائية محفورة في الصخر، تحكي قصة حضارة آمنت بالماء كعنصر حياة وازدهار.
تنزه في حضن الحياة
على بعد خطوات من المعبد، يمتد المنتزه الوطني بزغوان، مساحة خضراء مترامية، تعج بالحياة البرية والنباتات العطرية. هو المكان المثالي لعشاق “التفرهيد”، حيث يمكن التنزه، التخييم، أو حتى التأمل في صمت.
المنتزه ليس فقط فضاءً طبيعياً، بل هو مختبر حيّ للتنوع البيولوجي، حيث يمكن للزائر أن يكتشف أنواعًا نادرة من النباتات، ويستمع إلى سيمفونية الطيور التي لا تنقطع.
في قلب زغوان، تتنفس المدينة القديمة عبق التاريخ. نهج 9 أفريل ليس مجرد شارع، بل شريط سينمائي حيّ: مقاهٍ شعبية، دكاكين صغيرة، وجوه باسمة، وأحاديث باللهجة الزغوانية الدافئة.
كل حجر هنا له ذاكرة، وكل نافذة تروي حكاية. العمارة الأندلسية تفرض حضورها، بأقواسها المزخرفة، ونوافذها الخشبية، وأبوابها ذات اللون الأزرق الزغواني المميز.
المدينة القديمة ليست فقط فضاءً عمرانياً، بل هي ذاكرة شعب، ومتحف مفتوح لمن أراد أن يفهم كيف تعايشت الحضارات في تونس.
نكهات من الجبل
الطعام في زغوان ليس مجرد وجبة، بل تجربة. في مطاعم تُقدَّم أطباق تقليدية بنكهة جبلية كسكسي بالخضر البرية ،لحم مطهو على الفحم ،شاي بالنعناع يُحضَّر من أعشاب تنبت على سفوح الجبل هذه النكهة هنا ليست فقط في المكونات، بل في طريقة التقديم، في البساطة، وفي دفء الضيافة. زغوان هي وجهة صيفية متكاملة و ما يجعل زغوان فريدة هو هذا التوازن العجيب بين الطبيعة جبال ، عيون ماء، منتزهات، التاريخ مثل معابد رومانية ، عمارة أندلسية ، ذاكرة شعبية و الهدوء لا صخب، لا ازدحام ، فقط صفاء.
زغوان ليست فقط وجهة سياحية، بل هي تجربة إنسانية.
هي المكان الذي يمكن أن تكتب فيه، أن تتأمل، أن تحب، أو ببساطة… أن تصمت.
في زمنٍ نلهث فيه خلف الوجهات البراقة، ربما حان الوقت لنلتفت إلى كنوزنا الداخلية ، زغوان ليست فقط مدينة، بل تجربة، تجربة تلامس الحواس، توقظ الذاكرة، وتمنح الزائر لحظة صفاء نادرة. فهل نمنحها ما تستحق من اهتمام؟ وهل نعيد اكتشاف تونسنا العميقة، حيث الجمال لا يُصرخ به، بل يُهمس؟