تلوح في الأفق مؤشرات قوية على إمكانية إصدار نص قانوني خلال العطلة البرلمانية الحالية يخص انتداب أصحاب الشهائد العليا الذين طالت فترة بطالتهم، خاصة أن رئيس الجمهورية قيس سعيد لمح بوضوح إلى هذا التوجه في أكثر من مناسبة خلال الأسابيع الأخيرة.
و قد أكد رئيس الجمهورية قيس سعيد خلال لقائه الأخير برئيسة الحكومة سارة الزعفراني الزنزري، أن العمل جار على إيجاد حلول وطنية في كل القطاعات، مشيرا بصفة خاصة إلى الفئة التي عانت البطالة لسنوات طويلة.
وجاء هذا التصريح في سياق انتقاد عدم تفاعل المنظمة الشغيلة إيجابيا مع النصوص القانونية التي صيغت سابقا لدعم حقوق العمال، ما يعطي بعدا إضافيا لإصرار الرئيس على المضي في هذا الملف.
تصريحات متكررة وإشارات واضحة
و ليست هذه المرة الأولى التي يتحدث فيها سعيد عن تشغيل من طالت بطالتهم، فقد سبق له منذ نحو شهرين أن شدد على أن النصوص القادمة ستكون في مستوى انتظارات الشعب، وأن الحلول العملية جارية لتوفير فرص عمل لهذه الفئة.
الجديد في الموقف أن تصريحاته الأخيرة حملت إشارة إلى نص جاهز أو في مراحله النهائية، لكنه طلب إعادة النظر فيه لكونه لا يلبي كل الانتظارات، ما يوحي بأننا أمام مرحلة تعديلات أخيرة قبل الإقرار، وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن الدستور يتيح خلال العطلة البرلمانية، الممتدة إلى نهاية سبتمبر المقبل، التشريع بالمراسيم، فإن احتمال إصدار هذا النص في شكل مرسوم أو أمر رئاسي بات واردا جدا.
سياق برلماني داعم
و على الصعيد التشريعي، صادقت لجنة التخطيط الاستراتيجي بمجلس نواب الشعب في 23 جويلية الماضي على التقرير النهائي لمقترح قانون يعالج الوضعية الاستثنائية لخريجي التعليم العالي الذين طالت بطالتهم، حيث يفتح هذا المقترح الباب واسعا أمام انتداب هؤلاء في مختلف قطاعات الدولة والمؤسسات العمومية، تحت إشراف وزارة التشغيل والتكوين المهني. وجود ويرى البعض ان وجود نص برلماني جاهز يمكن ان يسهّل على رئاسة الجمهورية بلورة مرسوم أو أمر رئاسي مستند إلى أرضية قانونية مسبقة، خاصة أن النقاشات السابقة وضعت شروطا وضوابط دقيقة للانتفاع.
وينص الفصل الأول من مقترح القانون على معالجة استثنائية تقوم على إدماج هذه الفئة مباشرة في الوظيفة العمومية أو المؤسسات العمومية. أما الفصل الثاني فيقترح إحداث منصة رقمية لجمع بيانات المترشحين وترتيبهم حسب معايير محددة، أبرزها سن المترشح وسنة تخرجه، مع إعطاء الأولوية لمن تجاوز الأربعين من عمره أو لمن مضت أكثر من عشر سنوات على تخرجه، إضافة إلى تخصيص موضع واحد على الأقل لكل عائلة دون اشتراط السن أو الوضعية الاجتماعية.
ووضع الفصل الثالث شروطا واضحة للانتفاع، مثل التسجيل بمكاتب التشغيل، وعدم الاستفادة من تسوية مهنية سابقة، وعدم الانخراط الدائم في منظومة التقاعد، وعدم الحصول على معرف جبائي في السنة السابقة للتسجيل، وعدم الحصول على قرض يتجاوز 40 ألف دينار من المؤسسات المالية. هذه الشروط تهدف إلى حصر الانتفاع في الفئة التي لم تدخل فعليا الدورة الاقتصادية، وهو ما يعكس إرادة في استهداف المعطلين المزمنين عن العمل.
ويؤكد الفصل الرابع على أن الانتداب سيتبعه تأهيل مهني وفق الخطة أو الوظيفة التي سيشغلها المنتدب، وهو ما يربط بين التشغيل وتحسين الكفاءة المهنية. كما يخصص الفصل الخامس عملية سد الشغورات في القطاع العام للمسجلين بالمنصة، مع مراعاة التوازن الجهوي والاختصاصي، وهو عنصر مهم لتفادي تركّز الانتدابات في ولايات أو قطاعات دون أخرى.
ويحدد الفصل السادس سقفا زمنيا لا يتجاوز ثلاث سنوات لتنفيذ الانتدابات ضمن خارطة طريق تضمن التدرج، ما يسمح بتوزيع العبء المالي والإداري على مراحل، دون الإخلال بجوهر المبادرة. أما الفصل السابع فيلزم المترشحين بتحيين بياناتهم سنويا، لضمان متابعة دقيقة للوضعيات، بينما ينص الفصل الثامن على دخول القانون حيز النفاذ فور نشره بالرائد الرسمي.
ويمكن القول أن إصدار نص في هذا الاتجاه سيحمل انعكاسات اجتماعية واسعة، إذ سيوجه رسالة قوية لفئة المعطلين عن العمل بأن الدولة جادة في معالجة ملفاتهم.
و على المستوى السياسي، يمكن ان يعزز مثل هذا القرار من صورة رئاسة الجمهورية كطرف مبادر في الملفات الاجتماعية الكبرى، في مقابل ما يعتبره الرئيس تباطؤا أو تلكؤا من قبل بعض الأطراف النقابية أو السياسية.
و لكن رغم الزخم الإيجابي، يظل التنفيذ العملي محفوفا بتحديات عدة، أولها القدرة المالية للدولة على استيعاب أعداد كبيرة من المنتدبين في فترة قصيرة، وثانيها تهيئة المناصب الشاغرة أو خلق وظائف جديدة دون المساس بجودة الخدمات العمومية أو إثقال الكلفة الجملية للأجور. كما أن التنسيق بين مختلف الوزارات والهيئات سيكون ضروريا لإنجاح عملية الانتداب والتأهيل والتوزيع الجهوي.
وختاما تشيرمجمل المعطيات، من تصريحات الرئيس إلى التحركات التشريعية في البرلمان، إلى أن الحسم في هذا الملف قد لا يتأخر طويلا، حيث تمثل العطلة البرلمانية نافذة زمنية مناسبة لإصدار النصوص عبر المراسيم أو الأوامر.