27.6 C
تونس
22 أغسطس، 2025
وطنية

العنف اللفظي والتنمر الرقمي: حين تتحول الشخصية الافتراضية إلى قناع للعنف

في زمنٍ تتسارع فيه وتيرة التحولات الرقمية، حيث تصبح الشاشات مرآتنا الاجتماعية الجديدة، تتزايد التحديات المتعلقة بكيفية التعامل مع هذه المساحات الافتراضية. من بين هذه التحديات تبرز ظاهرة العنف اللفظي والتنمر الرقمي، اللذان باتا يشكلان تهديدًا متزايدًا على مستوى الأفراد والمجتمعات. فعلى الرغم من أن هذه الأفعال تحدث في فضاء افتراضي، فإن تأثيراتها على الضحايا حقيقية، وعواقبها قد تكون مأساوية. هذه الظاهرة تُظهر كيف يمكن لتلك المنصات الرقمية التي يفترض بها أن تكون وسيلة للتواصل والتعبير أن تتحول إلى ساحة صراع نفسي واجتماعي، تحمل في طياتها أسئلة جوهرية عن طبيعة الإنسان عندما يختبئ خلف “شخصية افتراضية” .

الشخصية الافتراضية: من التحرر إلى العنف

من الخصائص الأساسية للعصر الرقمي هو أن الأفراد يمكنهم بناء شخصياتهم الرقمية بعيدًا عن الرقابة المباشرة للمجتمع. فعلى الإنترنت، تصبح الشخصيات الافتراضية هي الميدان الذي يمكن للفرد فيه أن يظهر بما يشاء، بعيدًا عن القيود الاجتماعية التي تمليها الحياة الواقعية. هذه البيئة توفر للأفراد درجة من الحرية والتعبير عن الذات لم تكن ممكنة في العوالم التقليدية. لكن هذه الحريات، التي كانت في البداية تُمثل مساحة من التحرر، أصبحت تُستخدم في بعض الحالات للتعبير عن العدوانية والعنف اللفظي.

الإنترنت يتيح للأفراد أن يتحرروا من الرقابة المجتمعية، فيسقط القناع الاجتماعي الذي يرتديه الشخص في حياته اليومية. غياب القوانين أو القيود الواضحة يتيح للبعض التصرف بما يعكس النزعات العدوانية التي كانوا يخفونها في حياتهم الواقعية. في غياب الأبعاد الإنسانية التي تتحكم في سلوك الإنسان في العالم الحقيقي، يصبح الفرد أكثر جرأة في التعبير عن آرائه وأحيانًا أكثر عدوانية، لأنه يشعر أنه في مأمن من المحاسبة أو العواقب. هكذا تُصبح الشخصية الافتراضية وسيلة لتفريغ المشاعر السلبية، وتظهر شخصية مغايرة، قد تكون أكثر قسوة وابتعادًا عن القيم الإنسانية.

التنمر الرقمي: آلية دفاع نفسي أم تجسيد لصراعات داخلية؟

إذا نظرنا إلى الظاهرة من زاوية نفسية، يمكننا أن نعتبر التنمر الرقمي بمثابة آلية دفاعية يستخدمها الأفراد لتفريغ مشاعرهم السلبية أو الإحباطات التي يعانون منها في حياتهم اليومية. المتنمر الرقمي، في كثير من الحالات، يكون شخصًا يعاني من مشاكل نفسية أو اجتماعية تجعله يشعر بالنقص أو الإحباط. وعندما لا يجد منفذًا للتعبير عن هذه المشاعر في حياته الواقعية، فإنه يتوجه إلى الفضاء الافتراضي لمهاجمة الآخرين والتنفيس عن مشاعره السلبية.

وفقًا للعديد من الدراسات النفسية، يُعتبر التنمر الرقمي نوعًا من “الإسقاط”. فهذا السلوك العدواني لا يستهدف الضحية بذاتها، بل هو تعبير عن الفشل الشخصي والضعف الداخلي للمتنمر. إنه هجوم على صورة الذات التي يحملها هذا الشخص، وهو محاولة للتغطية على الإحساس بالعجز أو الفشل. إذ يصبح التنمر بمثابة منفذ نفسي للفرد الذي يشعر بأنه لا يملك القدرة على التأثير في واقعه، فيعوض عن ذلك بالهجوم على الآخرين في الفضاء الافتراضي.

مجتمع رقمي بلا ضوابط

الظاهرة لا تقتصر على سلوكيات الأفراد فقط، بل تتداخل مع سياق اجتماعي أوسع. ففي المجتمعات التي تعاني من أزمات اقتصادية واجتماعية، مثل البطالة أو التهميش الاجتماعي، يمكن أن تصبح الشبكات الاجتماعية ساحة للتنفيس عن الغضب الجماعي. حيث تتحول هذه المنصات من مكان للتواصل إلى فضاء لخلق بيئة عدوانية تشجّع على التنمر والتعنيف. في هذه الأوضاع، يتحول الاختلاف في الرأي أو الشكل أو الفكر إلى مبرر للسب والشتم والتشهير، مما يعمق الهوة بين الأفراد ويزيد من شعورهم بالغربة والانعزال.

التحليل السوسيولوجي لهذه الظاهرة يُظهر أن التنمر الرقمي يمكن أن يكون تعبيرًا عن نوع من “العنف الطبقي أو الرمزي”. ففي المجتمعات التي تعاني من أزمات اقتصادية أو اجتماعية، يصبح الهجوم على الأفراد الذين يُعتبرون مختلفين أو ناجحين بمثابة وسيلة لتفريغ مشاعر الغضب الاجتماعي. هذه الظاهرة يمكن أن تكون موجهة ضد الأشخاص الذين يبرزون من خلال نجاحاتهم أو أفكارهم المغايرة، فيتحول التنمر إلى أداة لتعزيز الإحساس بالتماثل المجتمعي.

ضحايا في صمت… وآلام حقيقية

على الرغم من أن التنمر الرقمي يتم في بيئة افتراضية، إلا أن تأثيراته الواقعية على الأفراد لا يمكن إنكارها. فقد أظهرت الدراسات أن العديد من المراهقين الذين يتعرضون للتنمر الرقمي يعانون من الاكتئاب، ويظهرون علامات العزلة الاجتماعية، بينما تصاب النساء بالتشهير أو الابتزاز الإلكتروني. في بعض الحالات، يُسجل تعرض الأطفال للاعتداءات النفسية التي تؤثر على أدائهم الدراسي وحياتهم الاجتماعية.

هذه الأفعال، التي قد تبدأ أحيانًا بتعليق ساخر أو صورة مشوهة على وسائل التواصل، تؤدي إلى معاناة نفسية حقيقية، وقد تنتهي بمآسي مثل الانتحار أو الانعزال التام عن المجتمع. إن الواقع القاسي الذي يعاني منه الضحايا يجعل من التنمر الرقمي ظاهرة تحتاج إلى التوعية والمواجهة بشكل عاجل.

مواطنة رقمية مسؤولة: ما العمل؟

لمكافحة هذه الظاهرة، لا يمكن الاكتفاء بالبلاغات الأمنية أو حظر الحسابات. يجب أن تتبنى المجتمعات تشريعات واضحة لحماية الضحايا وتجرّم التنمر الرقمي. علاوة على ذلك، يجب تضمين برامج توعية وتربية رقمية في المدارس والمعاهد، لتعليم الأفراد كيفية التعامل مع الإنترنت بشكل آمن ومسؤول. كما ينبغي أن تعمل منصات التواصل الاجتماعي على تطوير أدوات وقائية واستباقية للكشف عن المحتوى العنيف أو المسيء والتصدي له قبل أن يتفاقم.

من المهم أيضًا تشجيع الأفراد على احترام الآخر في الفضاء الرقمي، وتعزيز ثقافة المواطنة الرقمية التي تقوم على احترام التنوع وحقوق الآخرين. فالإنترنت ليس مكانًا خارجيًا عن الحياة اليومية، بل هو امتداد لها، ولهذا فإن تصرفاتنا في هذا الفضاء يجب أن تكون مسؤولة.

Related posts

الابقاء على الصحفي صابر العياري بحالة سراح بعد الإستماع له

Na Da

اليوم.. أمطار مع ظهور خلايا رعدية

marwa

وزيرة الثقافة تستقبل سفير الولايات المتّحدة الأمريكية بتونس

رمزي أفضال

Leave a Comment