19 أغسطس، 2025
وطنية

انتشار الجرائم في تونس: الاسرة فقدت السيطرة على أبنائها وتركت امر “تربيتهم” لوسائل التواصل الاجتماعي

شهدت تونس في الفترة الاخيرة تصاعدا مقلقا في عدد جرائم القتل حتى أصبحت ظاهرة متكرّرة تتراوح بين قتل داخل الأسرة وتصفية حسابات، وجرائم بدوافع تافهة لا تتجاوز مشادة أو خلاف عابر.

فقد شمل هذا المدّ العنيف كل الفئات وكل المناطق، راح ضحيته نساء على يد أزواجهن، وأطفال أبرياء على يد أقاربهم وأصدقاء في خلافات عابرة ومعارك تافهة، بأساليب مختلفة تتشابه في بشاعتها.

وفي مقارنة مع العام المنقضي 2024، ووفقا لبيانات غير رسمية، تمّ تسجيل 1.92 جريمة قتل على وجه العمد، لكل 100 ألف ساكن، مقارنة بعام 2024، ما يعكس ارتفاع حجم العنف المجتمعي هذا العام.

تواتر الجرائم الخطيرة

قبل اسابيع قُتل شاب على يد صديقه في بلدة بئر الحفي من ولاية سيدي بوزيد، بعد طعنه بآلة حادة إثر خلاف بينهما بعد يومين فقط من مقتل طالبة جامعية طعنا بسكين على يد صديقتها وشريكتها في السكن بقابس بعد نشوب شجار بينهما. كما أقدم زوج في توزر على قتل زوجته بعد أن أضرم النار في جسدها، بسبب خلافات بينهما، كما قتل زوج زوجته في منوبة وأصاب ابنتها، إثر خلاف عائلي وتم قتل محامية في منوبة في جريمة تشير الدلائل على تورط ابنها وطليقها وصديق لهما.

هذه الحوادث تستفز مشاعر التونسيين وتثير الرأي العام وتطرح تساؤلات حيرت المختصين حول أسبابها ودوافعها وحول الجهات المسؤولة عن بلوغ العنف هذه الدرجة من البشاعة، هل هي أسباب تتعلق بمؤسسة الأسرة وأساليب تربية الأبناء أم أنها مرتبطة بحالة من الانفلات الاجتماعي لم تستطع القوانينها الجزائية السيطرة عليها وردع مرتكبيها؟

ويقول المختصون في علم الاجتماع إن انتشار مظاهر العنف لتطال العمود الفقري للمجتمع وهو الأسرة يرجع في جانب كبير منه إلى تردي الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في تونس ما بعد الثورة.

وأصيب التونسيون بحالة من الإحباط جراء انتظاراتهم الكبيرة التي علقت على الثورة، ما أدى إلى نوع من النقمة على الأوضاع مما طور مشاعر الغضب والعنف لديهم بالتوازي مع ما يتبع جل الثورات من انتشار لفكرة ضعف مؤسسات الدولة في الوعي الجمعي وذلك ما حفز على التمرد على المنظومة القانونية وأسس الدولة المدنية في العشرية السابقة

والملاحظ أن ممارسة العنف داخل الأسرة تجمع كلا الجنسين وكذلك جل الأعمار أي أن مرتكبيها ليسوا فقط من الشباب والمراهقين بل إنها طالت الكهول والنساء والأطفال أيضا.

وتظل أبشع الجرائم تلك التي يرتكبها الأبناء في حق الآباء أو العكس فهي تشد انتباه الرأي العام لأنها تمس أقدس أنواع العلاقات الإنسانية والأسرية، الأمر الذي يصفه المختصون في علم النفس والاجتماع بأنه انهيار قيمي وأخلاقي أصاب المجتمع التونسي وتسرب إلى الأواصر الأسرية. وكثيرا ما ترجع أسباب هذه الجرائم إلى اضطرابات نفسية وعقلية.

ويعتبر الخبراء أن أسباب العنف والجريمة تنبع من ثلاث بيئات وهي الأسرة في المقام الأول ثم الشارع والمدرسة. ويحكم بعضهم على أن المجتمع التونسي بات يعيش حالة من التفكك الأسري لأن الروابط الأسرية فقدت قوتها نظرا إلى أن أغلب الآباء والأمهات كثرت مشاغلهم وألهتهم مسؤوليات العمل عن القيام بدورهم التربوي على الوجه الأكمل. كما أن غيابهم ونقص الإحاطة بأبنائهم يجعلان هؤلاء يتأثرون بالعنف المستشري في الشارع وفي المدارس التي بدورها لا تركز كثيرا على الجوانب التربوية بقدر تركيزها على التعليم فحسب.

ويلاحظ المتأمل في أغلب القضايا المنشورة في مجال العنف والجريمة في إطار عائلي أن من أبرز أسباب الاعتداءات أو القتل التي حدثت مؤخرا في الأسر التونسية نجد بطالة الشباب والمراهقين والانحراف في صفوف نسبة هامة منهم ما يجعلهم يتواكلون على الآباء ويطالبونهم بتوفير مصاريفهم اليومية التي تتجاوز إمكانيات الأبوين في أغلب الأحيان فتنشب الخلافات والصراعات بين الطرفين التي قد تصل إلى ارتكاب أحدهم جريمة في حق الآخر.

بالإضافة إلى الخلافات المادية والخيانة بين الزوجين وغيرها من أسباب انعدام التفاهم والتواصل بين الوالدين مثل غياب الحوار ما يجعل الأقوى يلجأ إلى لغة العضلات وأحيانا إلى القتل العمد.وعلى الرغم من غياب دراسات دقيقة تبحث في هذه المسألة وتحدد أبرز أسباب الاعتداءات بالعنف أو ارتكاب جرائم بين أفراد الأسرة إلا أن الثابت أنها نتاج مناخ عام يسوده التوتر والاضطراب والعنف في المجتمع من جهة، ونتيجة لأخطاء تربوية في تنشئة الأبناء على نبذ العنف تتحمل مسؤوليتها بالدرجة الأولى الأسرة ثم المدرسة والشارع من جهة أخرى، وهو ما أكده الباحثون في علم الاجتماع عبر دراستهم للعنف والجريمة في الإطار الأسري.

ضعف الوسائل الدفاعية الاجتماعية

وتعليقا على هذه الظاهرة، أوضح أستاذ علم الاجتماع في الجامعة التونسية، سامي بن ناصر في تصريح اعلامي، أن ارتفاع معدلات جريمة القتل وتصدرها أخبار الإعلام ونقاشات مواقع التواصل في الفترة الأخيرة، هو نتيجة الوضعية الهشّة التي وصل لها المجتمع التونسي منذ الثورة، والتي فقد خلالها ما يمكن أن يسمّى بـ”الوسائل الدفاعية الاجتماعية”، وهو ما أدّى إلى إفراز ظواهر إجرامية أكثر خطورة.كما أضاف أن المجتمع التونسي تجاوز خلال الفترة الأخيرة كل مراحل الجريمة ودخل إلى مرحلة الثقافة العنيفة، بسبب الانتشار الواسع للعنف واقتحامه لكل مؤسسات المجتمع، كالأسرة والشارع والملاعب وأماكن العمل والمؤسسات التربوية والمستشفيات إضافة إلى وجود تطبيع مع الجريمة في ظل غياب الردع والاستنكار المجتمعي، وإعطاء شرعية وتبرير للعنف في بعض الأحيان عبر الأغاني الهابطة والمسلسلات التافهة التي تحرص على الافساد عوض الإصلاح والرقي بالذوق ما أدى الى انتشار اللغة العنيفة في المجتمع التونسي وتحوّلها إلى لغة مستعملة حتى في الأغاني الشعبية وتغطية المقابلات وداخل الأسرة، إلى جانب غياب وضعف القانون الردعي. واكد بن نصر، أن الأوان حان لدق ناقوس الخطر قبل حدوث أزمة اجتماعية حادة ستعصف بالمجتمع، إذا لم يتم اتخاذ إجراءات عاجلة وجريئة، وتمّ الابتعاد عن الشعارات الفضفاضة والتحركات الظرفية، ووضع خطة إستراتيجية لمجابهة الظواهر الإجرامية المستفحلة في البلاد.

تونس في المركز العاشر عربياً

يتوجه اللوم الى كل الأطراف المعنية بمكافحة الجريمة خاصة داخل الاسرة التي استقالت من مهامها حيث لا تقوم العائلة بمراقبة أبنائها ولا تكتشف أي تحولات في شخصياتهم وفي أنماط سلوكهم لانها لا تعرف من يخالطون كما ان وزارة التربية لم تحرص على اثراء البرامج التعليمية بكل ما ينقي النفس من نوازع الميل الى العنف خاصة في ظل التطور في المحتويات الرقمية وانتشارها بشكل كبير بين الناشئة لتلقي بسمومها في نفسياتهم وعقولهم دون ان تتوفر لهم حصانة تمكنهم من التمييز بين الغث والسمين اما من ناحية الردع فان القوانين مازلت لم تواكب ما استجد في المجتمع من “توحش” أدى الى ارتكاب تلك الجرائم اذ لا مجال للتسامح او التخفيف في العقاب مع من يسفك دماء الأبرياء ولا ي من تسليط اقصى العقوبات حتى يكون المجرم عبرة لغيره كل تلك الاطراف تعاملت بسلبية مع هذه الظاهرة ولم تأخذها مأخذ الجدّ ما أدى الى انتشار العنف في كل مكان داخل العائلة وفي المدرسة ولم يعد منحصرا في الشارع فقط..

يذكر أنه وفقا لمؤشر قياس الجريمة في قاعدة البيانات (ناميبو) لعام 2024، احتلت تونس المركز العاشر عربيًا، والـ53 عالميا بنسبة 47.6 لكل 100 ألف نسمة، ما يعني أن معدل جرائم القتل تضاعف في تونس بأربع مرات خلال السنوات الخمس الأخيرة.

ويشير علم الاجتماع الى إن كل المجتمعات التي تشهد تحولات كبرى شهدت ارتفاعا في منسوب الجريمة وقد عرفت تونس من 2010 إلى 2020 أشكالا جديدة من الجرائم تم وصفها بالجرائم الاجتماعية إلا أنها لم تتخذ منحى تصاعدي مطلق وإنما ظلت ترتفع وتنخفض مما يبين أن الجرائم في المجتمع التونسي لم تبلغ أرقاما قياسية ولو تم وضع هذه الجرائم تحت مخبر العلوم الإنسانية والاجتماعية، لوجدناها تشير بشكل واضح إلى السياقات المرضية المعتلّة في تونس خصوصا أنها تأتي في سياق اقتصادي وفر ظروفا ملائمة لانتشار الجريمة وبيئة حاضنة لها خاصة أن أغلب جرائم السرقة والنشل يقوم بها أفراد جاؤوا من أحياء فقيرة في حين أن أبناء الطبقات الميسورة والمرفهة يرتكبون جرائم تحيل اقتصادي او تعاطي المخدرات.

ويشير خبراء علم الاجتماع الى أن المقاربة القانونية بمفردها ستظل عاجزة على مكافحة تطور الجريمة مؤكدين أن الإصلاح التربوي الرهان عليه كبير من أجل ترميم ما أصاب نفوس التونسيين من اهتزاز بفعل التسونامي الرقمي وتدهور الاخلاق وضعف التكوين النفسي والشخصي لدى الناشئة فيتاثرون بكل ما يعترضهم ولا يميزون بين الصحيح والخاطئ ولا بين الملائم لطبيعة مجتمعهم وما يخالفها ولا يوجد عمل معمقلتغيير البيئة من حاضنة إلى بيئة تخفف وتردع كل نزعات وانماط السلوك التي تؤدي إلى الاعتداءات على الآخرين.

كما اعتبر خبراء علم الاجتماع أن النزوع نحو الإجرام في تونس نتاج طبيعي لاضطراب القيم في المجتمع و تراجع دور المراجع القيمية في سياق مجتمعي يشهد تحولات اجتماعية لأن كل إنسان يحتاج إلى مرجع يشده إلى الحياة ويخلق له توازنا وجدوى ومعنى يشعره بقيمته وغياب هذا المرجع واختلاله يؤدي إلى الفردانية والأنانية ففي غياب القدوة الصالحة في الاسرة وفي المدرسة وفي الشارع يصبح الشاب والمراهق بلا “قائد” فتتقاذفه الاهواء وتنجح كل المؤثرات الموجودة في وسائل الاتصال الاجتماعي او في الدراما في التاثير عليه وطبع سلوكه بنزعة انحرافية لا تجد من يقومها الى ان تستفحل وتتحول الى خطر يهدد المجتمع. فالأسرة التونسية أصبحت تعاني العديد من التشوهات والإخلالاتالكبرى تجعلها في بعض الأحيان حاضنة للجريمة بل ان عائلات تصنع من أبنائها أشخاصا مشوهين ومضطربين نفسيا ومهيئين ليقع استقطابهم للجريمة كما ان انتشار العنف داخل الأسرة لعدة أسباب تعكس في مجملها تخلفا أخلاقيا لا يمكن تبريره بصعوبة الأوضاع الاقتصادية يكسر شخصية المرجع وهما الاب والام لتصبح هشاشة الروابط الأسرية من بين أسباب النزوع إلى الإجرام.

كما تخلت المدرسة عن دورها القيمي ولم تعد فضاء يقدم مضامينا قيمية تساهم في تنشئة تليمذ متوازن إضافة إلى تخلي المجتمع عن دوره القيمي حيث غابت النصيحة وصارت المتابعة لتصرفات أبناء الجيران وحتى الأقارب بمثابة تدخل في الشؤون الخاصة حتى صرنا نرى أولياء يعنفون المدرسين لمجرد انهم عملوا على تقييم سلوك التلميذ او التلميذة فيصبح الولي وحشا كاسرا يضع الذنب على المدرس ويشبعه سبا وشتما وحتى ضربا وركلا لانه قام بتقييم سلوك التلميذ بطريقة يرى فيها الولي حدة هو لم يعاينها شخصيا بل نقل اليه القصة ابنه وابنته فيصدقه دون ان يستفسر من المدرس او المدير وفي هذه الحالة سيتربى الطفل على رفض التقييم السلوكي له ويرى في كل تصرفاته انها صحيحة لا تقبل النقد وعندها سيستعمل العنف حين يشتد ساعده مع كل من يخالفه او يثير لديه أي قلق في الشارع وحتى في الاسرة. فعلماء الاجتماع يرون ان المجرم هو آخر حلقة في العملية الإجرامية وهو أداة تنفيذ لجريمة المشاركون فيها كثر تنطلق من الاسرة وتمتد الى المدرسة وتصل الى المجتمع لانعدم معاجلة الانكسارات المتتالية لدى الفرد سيؤدي بالضرورة إلى نزوعه إلى العنف والإجرام.

 ان الشخص الذي تربى على عقلية التذمر مهما كانت أوضاعه جيدة ويظل يركز على ما يفتقده، تغيب قدرته على الاستماع بالحياة  وإذا ضربت قيمة العمل كيف للإنسان أن يكون فاعلا ومؤثرا في واقعه.. تخلي الفرد عن المسؤولية وبحثه عن كبش فداء يتحمل مسؤوليات ما حدث له يدفعه إلى التوتر والنزوع إلى العنف. كما ان الفشل الدراسي أيضا والجلوس مطولا في المقاهي والاكتظاظ في بعض الأحياء وما ينجر عنه من فوضى وعدم الفاعلية في المجتمع والعطائب النفسية والاجتماعية كلها عوامل تؤدي إلى النزوع إلى العنف وارتكاب الجرائم كما أن غياب سلطة سلطة الأب ورمزيتها في المنازل وتخلي المدرسة ودورها التربوي وتعرض الطفل إلى العنف في عائلته وغياب الخطاب الديني الوسطي وارتفاع منسوب العنف في الأعمال الدرامية التونسية وانتشار المخدرات في المجتمع والإقبال على الألعاب الالكترونية التي تعتمد في قواعدها على العنف والوصول إلى القتل مدخلا للربح كلها عوامل تظافرت لتغذي منسوب الجريمة في مجتمعنا في الفترة الأخيرة.

وفي ظل كل ذلك من الطبيعي ان تتواتر حوادث العنف والجرائم البشعة حتى في النطاق العائلي بشكل لافت للانتباه، وينتشر ممارسة العنف الشديد بين الأزواج أو بين الوالدين والأبناء أو بين الإخوة ويشيع التحرش والاغتصاب وتكثر جرائم القتل التي قد تبلغ حدا من البشاعة لا يتقبلها الإنسان العادي لأنها ارتكبت بين أفراد الأسرة، ليعيش المجتمع التونسي حالة من الصدمة هو المتسبب فيها لانه ترك حل هذه المعضلة على عاتق قوات الامن وتخلى عن دوره في التربية والتوعية والتقييم والتصدي المبكر لاي انحرافات في السلوك بل في أحيان كثيرة شجع عليها. وينصح المختصون في التربية والخبراء الآباء والأمهات بتنشئة أبنائهم على احترام الآخر واحترام حقه في الحياة، وكذلك على المحبة بين أفراد الأسرة الواحدة. ويؤكدون على ضرورة النأي بالطفل عن أجواء التوتر والعنف اللفظي والمادي داخل البيت مع توفير الإحاطة والرعاية النفسية في جل مراحله العمرية. وتدريبه على الحوار والقبول بالرأي المخالف في الأسرة وخارجها، لكي لا يلجأ إلى لغة الجسد والعنف.

Related posts

اليوم: الأرض تشهد كسوفا حلقيا للشمس

Na Da

سمير الشفي: البرلمان أصبح من الماضي

root

صفاقس: تفكيك شبكة لترويج المخدرات وغسيل الأموال

Na Da

Leave a Comment